علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الإسلاميون ولا النافية

أما لماذا حصلت تلك الردة المفتراة فلأنه - كما يقول العنوان - لا يوجد في المسلمين حاكم كأبي بكر الصديق الذي أخمد حركة الردة التي انتشرت في قبائل عربية بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم. «ولا أبا بكر لها» في ذلك العنوان طلب صريح لإضرام نار الحرب على الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي، واستحثاث على إشعال ثورة عليهم. والحرب والثورة لا يكونان إلا بالعنف.
وتهييج الرأي العام كان غايته باستخدامه لفظ أو مصطلح ردة، بمعناه الديني حتى من دون استخدامه عبارة «ولا أبا بكر لها».
وهذه العبارة التي يطلب فيها إضرام نار الحرب على الطبقة المثقفة لم يكن يتوجه بطلبه هذا إلى الحكام المسلمين؛ لأن الحكام المسلمين أو كثيراً منهم يدخلون عنده ضمن حركة الارتداد المفتراة، ولم يكن يتوجه به إلى رجال الدين؛ لأن رجال الدين في تشخيصه لموقفهم طبقة لا يعول هو عليهم؛ ففريق منهم لمح إلى أنه غير زاهد بما عند طبقة المثقفين من حياة أو مال وقوة وسلطان، وفريق آخر أشار إلى أنه ينتفع بها في دنياه من غير أن ينفعها في دينها، وإنما يتوجه به إلى الإسلاميين وإلى عامة المسلمين.
وإذا تجاوزنا مسألة عنوان الرسالة أو الكتيب، فإن ما قبل تلك الفقرة وما بعدها، يتضارب أيضاً مع ما ادعاه. ومن وجوه التضارب وأسطعها طلبه - بأسلوب مراوغ - أن يمقت المسلمون الطبقة المثقفة من العالم الإسلامي مقتاً شديداً، وأن يفصلهم المسلمون عن المجتمع الإسلامي فصلاً كاملاً، بحيث يتحولون إلى مجتمع من المنبوذين.
وسأكشف عن أسلوبه المراوغ الذي دسّ فيه ذلك الطلب.
يتحدث في فقرة بتحسر وحنين عن أزمنة المسلمين التي سبقت العصر الحديث، فيقول: «كان كل من يرتد عن دينه يستهدف لسخط المسلمين الشديد، وينفصل عن المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه بطبيعة الحال، وتنقطع بمجرد ارتداده بينه وبين ذوي قرابته الأواصر والأرحام، وكانت الردة انتقالاً من مجتمع إلى مجتمع، ومن حياة إلى حياة، وكانت الأسرة تقاطعه وتهجره وتقصيه، فلا مصاهرة، ولا زواج، ولا إخاء، ولا توارث».
وفي فقرة أخرى يقارن بين حال من يسميهم «المارقون القدماء» في المجتمع الإسلامي القديم، وبين حال الطبقة المثقفة اليوم في المجتمع الإسلامي. يقول فيها «كان المارقون القدماء يخرجون من المجتمع الإسلامي وينضمون إلى مجتمع الديانة التي يدينون بها جديداً، ويعلنون عقيدتهم وتحولهم بصراحة وشجاعة، ويحتملون كل ما يخسرونه في سبيل عقيدتهم الجديدة، ولا يلحّون على البقاء في المجتمع القديم ليحافظوا على ما كانوا يتمتعون به من حقوق وحظوظ. أما الذي يقطع صلته عن دين الإسلام اليوم (والمقصود هنا الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي!)، مع أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع البشري الوحيد الذي يقوم على العقيدة ولا يتحقق هذا المجتمع من غير عقيدة، ويلحّون على أن يعيشوا في مراكزهم متمتعين بثقة هذا المجتمع، متمتعين بالحقوق التي يخولها الإسلام. إن هذا وضع شاذ لم يعرفه التاريخ الإسلامي»
هذا «الوضع الشاذ» لا يمكن أن يستقيم من وجهة نظره إلا بعمل ما فصّله في الفقرة الأولى!
إن أبا الحسن الندوي لكي يحقق ما ينشده ــ بأسلوب مراوغ ــ خلط عامداً متعمداً بين المروق أو الزندقة وبين التحول من دين إلى دين آخر في المجتمع الإسلامي القديم. فالتفصيل الذي ذكره في الفقرة الأولى والذي ذكره في مقدمة الفقرة الأخرى ــ لكن على مستوى الإطراء والمدح! ــ ينطبق على المتحولين من دين إلى دين آخر في المجتمع الإسلامي القديم، وينطبق عليهم إلى حد كبير في المجتمع الإسلامي الحديث، وينطبق على حتى الذين يتحولون من مذهب إلى مذهب آخر داخل الديانة الواحدة، كالإسلام والمسيحية، في كثير من البلدان العربية والإسلامية في القرون الحديثة وإلى يومنا هذا. وأتى في فقرتيه الأولى والأخرى بوقائع مخترعة. إننا نعرف أن من يتهم بالمروق أو الزندقة في التاريخ الإسلامي لا يحصل له ما رواه فيهما. والذي كان يحصل له أن الخليفة أو السلطان قد يضيّق عليه أو يضطهده أو قد يقتله بتهمة المروق أو الزندقة، كما حصل لبعض الأدباء والفلاسفة والمتصوفة. هذه المعلومة هو يعرفها جيداً، لكنه أغفل ذكرها لأسباب مضطربة وأسباب شائكة. بيان شرحها في تضاعيف ما يلي:
إن الإسلام الأصولي القادم من مسلمي الهند والذي اعتنقه إسلاميو العرب منذ منتصف القرن الماضي، أبقى على مقولة في الإسلام الإصلاحي ــ حول حرية الفكر في الإسلام وفي تاريخه، ولم يتعرض لها بالرد والنقض الصريح كما في فعل في بعض مقولاته الأخرى، وفي مقدمتها مقولته حول الجهاد الإسلامي موضوع حديثنا المستطرد. أبقى عليها رغم أن خطابه يحارب حرية التعبير عن الفكر، سواء أكان هذا التعبير من داخل الأنظومة الإسلامية أم من خارجها، وسواء إن كان موضوعه كبيراً أم صغيراً، جليلاً أم حقيراً، ورغم أن خطابه لم يعد النظر في الحكم الفقهي الخاص بالمرتد، كما صنع أصحاب الإسلام الإصلاحي.
مقولة الإسلام الإصلاحي حول حرية الفكر في الإسلام وفي تاريخه، تقول إن الإسلام مع حرية الفكر إلى أبعد حد ممكن، وتستند في ذلك إلى شواهد دينية، منها قبول الإسلام واعترافه بالتعددية الدينية وإلى شواهد تاريخية متعددة. وتؤكد على أن الذين ضُيّق عليهم أو اضطهدوا أو الذين قتلوا في تاريخ الإسلام ضُيق عليهم واضطهدوا وقتلوا لأسباب سياسية وأسباب شخصية وليس لأسباب دينية.
وهذه المقولة تشدد على أن العقيدة الإسلامية والتاريخ الإسلامي يتميزان على العقيدة المسيحية وعلى التاريخ المسيحي في هذا الشأن في سعة الأفق ورحابة الحرية المتاحة. وتذهب إلى أن الإسلام يتفق وينسجم مع الحضارة والثقافة الغربية في إعلائها من شأن حرية الفكر ومن شأن حرية العلم ومن شأن حرية الاعتقاد الديني.
الإسلام الأصولي أبقى على هذه المقولة ــ والذي هو في خطابه على النقيض منها، نظرياً وعملياً ــ لا ليقول مثل الإسلام الإصلاحي، إن الإسلام موائم للحضارة والثقافة الغربية في إيجابياتها وفي فضائلها وفي مميزاتها، فهذه الفكرة هاجمها الإسلام الأصولي واعتبرها فكرة انهزامية تُخضع الإسلام إلى مبادئ الحضارة الغربية ومقاييسها، وتنزل بالإسلام إلى درك الدفاع ولا ترتفع به إلى ذرى الهجوم، بحيث تخضع الحضارة والثقافة الغربية إلى مبادئه وإلى مقاييسه وليس العكس، وإنما أبقاها ليشنع بها على العقيدة المسيحية وعلى التاريخ المسيحي. والشاهد على ذلك استحضار أبي الحسن الندوي لمحاكم التفتيش سيئة السمعة في التاريخ الكنسي الكاثوليكي الأوروبي في الفقرة التي أوردناها في المقال السابق، والتي تقوم على جمل تبتدئ باللاءات النافية كـ«لا تطلب حرباً ولا تطلب تهييج الرأي العام ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عنفاً إلخ.».. إنه استحضرها ليشنّع بها على العقيدة المسيحية وعلى التاريخ المسيحي مع أن رسالته أو كتيبه «ردة ولا أبابكر لها» دعوة مبطنة لإقامة محاكم تفتيش للمثقفين في العالم الإسلامي الذين يرون ضرورة الأخذ والاستفادة من الحضارة والثقافة الغربية في شؤون شتى أو في شؤون بعينها. ولي أن أوضح أن المرتد والمارق في مفهوم الندوي الديني هو من لا يشاركه موقفه الرافض والمعادي والحانق والحاقد على الحضارة والثقافة الغربية، ولا من يقاسمه تصوره للإسلام على نحو أصولي متزمت ومغالٍ ومتطرف.
وأحسب أن لا حاجة إلى القول، إن محاكم التفتيش، وإن كانت فكرة كنسية وكاثوليكية وأوروبية، هي من صميم الخطاب الإسلامي الأصولي، فأدبيات أصحابه تزخر بها، وتاريخهم ينهض شاهداً عليها. ولو كانوا متسقين مع أنفسهم ومتصالحين مع أفكارهم لدافعوا عن محاكم التفتيش في التاريخي الكنسي الكاثوليكي الأوروبي دفاعاً مجيداً. لأن هذا الدفاع المجيد أليق بممارساتهم وألصق بخطابهم.
إن لا النافية في ملة الندوي وفي ملة أجيال متعاقبة من الإسلاميين عندما تدخل في جملة تتعلق بتأكيد الإيمان بالتسامح وحرية الفكر فإنها على غير ما قعّد نحاتنا القدماء «لا تنفي وقوع الحدث، ولا تنفي الفعل عن المتكلم». لأنهم يبطنون الاعتقاد بقاعدة نحوية محدثة وجديدة لا يجهرون بها أمام التيارات الأخرى، وهي أن لا النافية لا عمل لها في الجملة الليبرالية!
هذا فضلاَ عن أن ما ادعاه في خاتمة الفقرة التي تبتدئ جملها باللاءات النافية، ادعاء غير صحيح. إذ ليس في كل ما قاله في رسالته أو كتيبه مقدار ذرة من «حكمة» ولا فضلة من «دراسة».
لهذه الحيثيات ولسواها؛ نقرر مطمئنين أن الإسلام الأصولي أبقى تلك المقولة على مستوى الادعاء اللفظي الكاذب. وللحديث بقية،،،