عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

سياط «أُمِّ البرلمانات»

ما كادت حكومة المحافظين، بزعامة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، تمر من أزمة تصويت مجلس العموم (بفارق ستة أصوات، أربعة منهم من حزب العمال المعارض) حتى داهمتها أزمة جديدة ومطالب باستقالة جوليان سميث «كبير حملة السياط» في مجلس العموم، وهو منصب بحقيبة في مجلس الوزراء، بتهمة خرق اتفاق «المزاوجة»، وفي تقاليد وستمنستر تشبه التزوير في التصويت.
المزاوجة، حملة السياط، ومكتب السياط؟
هل يجلد أحد في «أُمِّ البرلمانات»؟
حملة السياط مجموعة من 14 نائباً لكل من الحزبين الكبيرين، «العمال» و«المحافظين»، وعدد أقل للأحزاب الأصغر، فيما يعرف بـ«مكتب السياط».
السوط هنا رمزي، وإن كان السوط يعلق في مكتب السياط بكل حزب.
والسياط رمز لإجبار النواب، المترددين أو المتمردين، على التصويت وفق سياسة الحزب.
سوط القرن 21 هو تليفون «بلاك بيري» الجوال (أكثر مقاومة للتجسس والاختراق من بقية التليفونات الذكية) الذي يزود به كل نائب فور دخوله البرلمان.
السياط مهمتهم إدارة شؤون الحزب اليومية وشؤون نوابه كجنود في كتيبة أو تلاميذ في مدرسة. رئيس المكتب، كبير حملة السياط بمنصب وزير في المجلس.
الوزير الآخر من وستمنستر هو زعيم مجلس العموم (زعيم الأغلبية في برلمانات النظام الجمهوري) لكن «الأغلبية» هي الحكومة في النظام البرلماني، وهذا يفسر دخول زعيم الأغلبية، و«كبير السياط» وزراءً في مجلس الوزراء.
مهام زعيم الأغلبية التواصل بين الحكومة والنواب، وإدارة البرلمان، ومكتب لا يقل أهمية عن رئاسة الحكومة، وهو ما يعرف بالعربية بـ«رئيس المجلس». زعيم الأغلبية (حالياً السيدة أندريا ليدسام) ينسق مع مكتب رئيس البرلمان، ومع نظيره في حكومة الظل وزعماء الأحزاب الأخرى، لترتيب جدول الأعمال في المجلس.
مكتب السياط ينظم حركة النواب، ويدون مكتبه كل تحركات النواب ومواعيد إجازاتهم، ومن يحضر ومن يغيب في إجازة مرضية أو مهمة خارجية.
الديمقراطية البرلمانية ببساطة عملية حسابية، من يقدر على حشد العدد الأكبر من الأصوات يحدد السياسة العامة، ولذا يوجه مكتب السياط، النواب، إلى كيفية التصويت.
صوت واحد يغير التاريخ. في عام 1979 خسرت حكومة العمال بزعامة جيمس كالاهان تصويت الثقة بفارق صوت واحد، وكانت الانتخابات العامة وفوز المحافظين بزعامة مارغريت ثاتشر، وظل العمال خارج الحكم لـ17 عاماً.
التصويت في «أم البرلمانات» فريد من نوعه، ليس برفع الأيدي، وإنما بالسير في الردهات.
بعد مناقشة مشروع قرار يطرح الأمر للتصويت بتلخيص رئيس الجلسة الموضوع ويطرح الخيارين. مثلاً إذا كان المطلوب مناقشة أخرى، أو إدخال تعديل أو رفض المشروع برمته، يصيح رئيس الجلسة «الموافقون»، فيصيح هؤلاء «Aye» أو «إي» (المقصود نعم). فإذا صمتوا، رفض القرار، وإذا صاحوا بعدد كافٍ، يصيح رئيس الجلسة «والرافضون؟»، فإذا صمتوا مر القرار بموافقة، وإذا صاحوا «ناي» أي لا، يقدر الرئيس عدد الصائحين، ما إذا كان الأمر يحسم للموافقين أو الرافضين، أما إذا كان عدد الصائحين متساوياً يصيح رئيس الجلسة «انقسام».
الانقسام هنا يعني التصويت العددي. والتصويت ليس برفع الأيدي، كما أشرت، أو علامة على ورقة في صندوق. التصويت يستغرق ما بين ربع ساعة وعشرين دقيقة. لأن النواب يسيرون بالفعل جِسْمياً؛ إما إلى ردهة نعم على يمين منصة الرئيس، أو ردهة لا على يسارها.
لحظة الإعلان يدق جرس في جميع أنحاء البرلمان، لأن ليس كل النواب داخل القاعة، فالبعض في لجان عمل أو في لقاءات أخرى، ويهرول النواب من مختلف أنحاء قصر وستمنستر للتصويت. بل إن المطاعم والحانات المجاورة تعلن أنها «في دائرة جرس الانقسام»، أي يستطيع النائب الجالس فيها التصويت لأنه يذهب للقاعة قبل انتهاء المدة.
ولذا يمنح الرئيس نحو اثنتي عشرة دقيقة للتصويت.
الرئيس يختار أربعة من النواب، عشوائياً، اثنان لعد الرؤوس في ردهة نعم، واثنان في ردهة لا. اسم الأربعة «the teller» أو العرافون.
بعد اثنتي عشرة دقيقة يصيح رئيس الجلسة «أغلقوا الأبواب»، أي ممنوع المرور، وانتهت مدة التصويت. الممتنع عن التصويت يظل جالساً في القاعة.
وبعد دقائق يعود العرافون لإخبار الرئيس بالنتيجة.
عندما لا تتمتع الحكومة بأغلبية مريحة، يلجأ مكتب حملة السياط إلى المساومات مع نواب من أحزاب الأقليات الصغرى.
المشكلة الأخرى التي تواجه حملة السياط هي «تمرد» بعض نواب الحزب، ورفضهم التصويت على مشروع قرار الحكومة، أو رفض مشروع قرار قدمته المعارضة. السياط يستخدمون جميع أدوات الضغط بما فيها الابتزاز والتهديد بفضائح أو كشف أسرار النائب مثلاً لزوجته، وأحياناً الإغراء بمنصب وزاري.
لكن حملة السياط في حزب الحكومة ينسقون أيضاً مع نظرائهم في حزب المعارضة.
أحد أهم وأقدم مظاهر التنسيق ما يعرف بـ«المزاوجة»، أو تزويج وضع نائبين من الحكومة والمعارضة، إما مؤقتاً إذا اضطر نائب للتغيب لظروف عائلية، أو نائبة في إجازة وضع (كما حدث هذا الأسبوع مع النائبة جوزيفين سوينتون من الديمقراطيين الأحرار). يتفق النائبان، حكومة ومعارضة، بالتنسيق مع مكتب السياط، على عدم تصويت «المزاوج» في حال غياب نظيره. وهناك المزاوجة الدائمة، بين نائبين طوال مدة البرلمان. اتفاق جنتلمان. وهو أمر بالغ الأهمية، لأن النائبة سوينتون قدمت شكوى بأن مكتب السياط لم يحترم الاتفاقية وصوَّت نظيرها أو مزاوجها مع الحكومة.
المستر سميث، كبير سياط الحكومة متهم بجريمة لا تغتفر برلمانياً بإلغاء اتفاق المزاوجة الذي اعتبره، خطأ، «مؤقتاً»، مثلما قال لمجلس العموم الذي ارتفعت فيه الأصوات مطالبة باستقالته، خصوصاً من مقاعد المعارضة والنواب الموالين للاتحاد الأوروبي الذين خيبت نتيجة التصويت بأغلبية ستة أصوات آمالهم. الزوبعة مستمرة، وطرحت اقتراحات مثل نشر أسماء «المزاوجين» على موقع البرلمان. النساء يقترحن التصويت بالوكالة لظروفهن العائلية.
الراديكاليون اليساريون كحزب الخضر يطالبون باستبدال التصويت الإلكتروني بالنظام القديم.
التقليديون يحذرون من الانزلاق في هاوية التحديث، فالتقاليد هي الأهم في «أُمِّ البرلمانات» وأعرق الديمقراطيات.