إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

جمهورية غيرنيكا

يتوجه المئات، كل يوم، إلى متحف بيكاسو في باريس لرؤية لوحة «غيرنيكا». ينبهر الزوار باللوحة ويلتقطون «السيلفي» معها وهم يدارون شيئاً من الخيبة. لقد خدعتهم الملصقات الإعلانية التي ملأت الشوارع، خلال الشهر الماضي، وتوشحت باسمها. تصوروا أنهم سيشاهدون الأصلية، أي تلك اللوحة التي أنجزها الفنان عن البلدة الإسبانية التي تعرضت لقصف ماحق خلال الحرب الأهلية. لكن ما رأوه هو نسخة طبق الأصل: أكثر من 3 أمتار ارتفاعاً في 7 أمتار طولاً، تشبه تلك الموجودة في متحف الملكة صوفيا في مدريد، لكنها ليست هي.
في كتاب جديد صدر في باريس بعنوان «بيكاسو بركان لا يخمد»، يروي رولان دوما، وزير خارجية فرنسا في عهد ميتران، أنه تلقى، في خريف 1969، اتصالاً من تاجر اللوحات كانويلر يخبره فيه بأن بيكاسو سيتصل به خلال النهار. كان الرسام الإسباني الشهير نادراً ما كان يستخدم الهاتف. لكن التليفون رنّ بالفعل وسمع صوتاً يقول له: «تعال فوراً». واستغرب رولان دوما الطلب لأنهما لم يتعارفا من قبل، عدا عن أنه كان محامياً شاباً، آنذاك، ولا صيت له في ساحات القضاء. من ذا الذي يرفض مقابلة أشهر رسام في القرن العشرين؟ أخذ أول طائرة إلى موجان، البلدة التي أقام فيها بيكاسو حتى وفاته، جنوب فرنسا.
أخبره السكرتير ميغيل بأن الأمر يتعلق بلوحة «غيرنيكا». الكل يعرف أنها موجودة في متحف الفن الحديث في نيويورك، على سبيل الإعارة الموقتة. خاف عليها الفنان من القصف أو النهب خلال الحرب العالمية الثانية. لكن إسبانيا بدأت ترسل المراسيل إلى الرسام لكي يوافق على استقرارها في أحد متاحفها. وقيل إن الجنرال فرانكو نفسه كان مهتماً بالسنيورة «غيرنيكا»، رغم أن اللوحة تدينه بشكل مباشر. لقد تواطأ أنصاره مع النازيين والفاشيست وشجعوهم على قصف البلدة. صحيح أن بيكاسو رسم اللوحة بأسلوب تكعيبي مبهم، ولم يزج فيها بأي رمز مباشر، لكن العمل الذي رأى النور في مرسم الفنان في باريس، حاز شهرة سياسية عالمية فاقت قيمته الفنية. لوحة صامتة تصرخ ضد الطغيان.
عارض بيكاسو نقلها إلى إسبانيا ما دام أن فرانكو هناك. وكان الرسام قادراً على التحكم بمصير لوحته وهو حي، فمن يضمن ما سيحدث بعد وفاته؟ نظر إلى ورثته وهم يلبدون كالصقور، يحبسون أنفاسهم في انتظار موته لكي ينقضوا على التركة. قال لرولان دوما، إنه غير مهتم بالنساء والأبناء الشرعيين وغير الشرعيين؛ لأن القانون سيحسم بينهم. أما «غيرنيكا» فهي حياته. وهو قد وهبها للجمهورية، ولن تعود إلى إسبانيا حتى تعود الجمهورية إليها. لذلك؛ لا بد من كتابة وصية خاصة بهذه اللوحة وتعيين شخص مؤتمن على تنفيذها. ثم أشار بيكاسو بسبابته إلى ضيفه الآتي من باريس وقال: «أنت يا مسيو دوما من سيتولى المهمة».
رحل بيكاسو في 1973 وهو يحلم بجمهورية إسبانيا. ومات فرانكو بعده بسنتين تاركاً نظاماً ملكياً في مدريد. ويكشف رولان دوما في كتابه عن لقاءات سرية جرت بينه وبين العاهل الإسباني السابق. أراد الملك خوان كارلوس أن ينهي حالة اللجوء التي تعيشها واحدة من أشهر الأعمال الفنية في العالم. وكان المحامي الفرنسي مقتنعاً بأن الحكم هناك دستوري والتشريعات تعاقب القمع وحجب الحريات. لكنه ظل قلقاً على سلامة «غيرنيكا» وخائفاً عليها من بقايا الفرانكيين المتعصبين. ولم تعد اللوحة إلى أرض إلهامها إلا في عام 1981، بعد 40 عاماً من الإقامة في مهجرها الأميركي. واستقبلها الإسبان استقبال الأبطال.