د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

نمذجة كرة القدم

انتهت فعاليات كأس العالم بفوز فرنسا على حصان البطولة الأسود كرواتيا، وحصد «فيفا» في هذه البطولة ما يقارب 791 مليون دولار، كان نصيب الفرق المشاركة منها 400 مليون دولار: 38 مليوناً منها ذهبت للفرنسيين، و28 للكروات، ووزعت البقية الباقية على الفرق المشاركة، بحسب ما وصلوا إليه، علماً بأن أقل الفرق تحصيلاً جنت 8 ملايين دولار (وهم أولئك الذين لم يتعدوا دور المجموعات).
لم تكن فرنسا من بين أكثر 3 فرق ترشيحاً لكأس العالم، ولم تكن كرواتيا حتى من أكثر 10 فرق ترشيحاً للوصول للنهائي، ولكن كلا الفريقين خالف التنبؤات، ووصلا إلى ما وصلا إليه. هذه التوقعات الخاطئة لم تقم بها شركات مغمورة، بل أصدرتها بنوك كبرى على مستوى العالم، مما أثار كثيراً من الجدل حول قدرة هذه البنوك على بناء نماذج رياضية تتنبأ بالسلوك العشوائي، سواء للشركات أو للأسهم. وتفتخر كثير من هذه البنوك باستخدامها لأدوات الذكاء الصناعي، من خوارزميات رياضية وبرامج محاكاة متقدمة، إلا أن كثيراً من هذه النماذج فشلت في توقع بطل كأس العالم، وفشلت أكثر في توقع ماهية الوصيف.
ومن ضمن 5 بنوك كبرى، بنك واحد فقط توقع فوز فرنسا بكأس العالم، وهو بنك «نومورا» الياباني، ولم ينجح هذا البنك في توقع الوصيف، حيث تنبأ بوصول إسبانيا للنهائي، التي خرجت من الدور ثمن النهائي. أما البنوك الباقية، فتوقعوا فوز البرازيل أو إسبانيا أو ألمانيا. واستخدم «نومورا» مدخلات كثيرة تتعلق بأداء اللاعبين في الموسم الرياضي السابق. أما البنوك الأخرى، فاستخدمت مدخلات تتعلق بالقيمة المادية للاعبين، وهو ما يفسر عدم ترشيح كرواتيا للنهائي، وترشيح إسبانيا وألمانيا، ولاعبو الفريقين من أكثر اللاعبين أجوراً على مستوى العالم.
وفي جميع البنوك، لم تكن عمليات الترشيح بهذه البساطة، فبنك «يو بي إس» السويسري استخدم برامج محاكاة أنشأت أكثر من 10 آلاف دوري افتراضي، انتهت بتفضيل ألمانيا والبرازيل وإسبانيا للفوز بكأس العالم. وبنك آخر استخدم ما يزيد على مائتي ألف شجرة احتمالات رياضية، ومليون عملية محاكاة، ولكنه توقع فوز إسبانيا كمحصلة نهائية، ولم يأخذ بالحسبان تغيير المنتخب الإسباني لمدربه قبل البطولة بأيام، وهو المتغير الذي أفسد جميع هذه العمليات الحسابية.
هذه الحوادث تدل على دقة برامج الذكاء الصناعي، وسهولة حصول الخطأ في برمجتها، وقد لا يكون الفوز بكأس العالم أمراً حساساً، لكن ربما يكون الأمر كذلك حين تحاول شركة «أوبر» تجربة السيارات ذاتية القيادة، التي قد يسبب الخطأ فيها وفاة إنسان.
وفي كل برامج الذكاء الاصطناعي، يتوقع وجود معدل للخطأ، إلا أن دخول بعض المتغيرات يسبب إفساد كامل البرنامج، وهو ما قد يتسبب بخسائر جمة للشركات، ويجعل الثقة في برامج الذكاء الصناعي في خطر.
ولعل حالة منتخب اليابان في كأس العالم أقرب مثال على ذلك، فاليابان لم تكن مرشحة للوصول إلى الدور ثمن النهائي، وخدمها في ذلك متغيرين لم يكونا في الحسبان، الأول هو حالة طرد للاعب كولومبيا في مباراتها الأولى، بعد 5 دقائق من بداية المباراة؛ هذه الحالة سهلت فوز اليابان على كولومبيا التي تصدرت المجموعة لاحقاً. أما الحالة الثانية، فهي تساويها في فارق الأهداف مع منتخب السنغال، الذي جعل «فيفا» يطبق نظام اللعب النظيف، لأول مرة في تاريخ كؤوس العالم، مما جعل اليابان تتأهل للدور ثمن النهائي بسبب حصولها على كروت صفراء أقل. والمؤكد أن هذا العام لم يكن موفقاً في البرمجيات التنبؤية لكأس العالم، وهو ما يعطي انطباعاً عن مدى وهن بعض برامج الذكاء الصناعي.
ولا تكاد شركة من كبريات الشركات الاستشارية في العالم إلا وقد أصدرت تقريراً عن مدى تأثير الذكاء الصناعي على التوظيف في العقد المقبل، ووصل الحال ببعض الشركات إلى أن توقعت خروج أكثر من نصف الموظفين من الشركات المالية التي تعد أكثر من يستخدم الخوارزميات في الوقت الحالي، خصوصاً تنبؤات سلوك الشركات في الأسواق المالية، وهي تفتخر بهذه البرمجيات لزيادة الثقة في أرباح مستثمريها، إلا أن هذه النتائج الخاطئة قد تضع هذه البرمجيات تحت المجهر، خصوصاً في المجالات الحساسة التي قد تمس حياة البشر، مثلما هو الحال في استثمارات «غوغل» و«أوبر» و«تيسلا»، التي تجلب مليارات الدولارات من الاستثمارات التي تؤمن أن المستقبل للذكاء الصناعي.