بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

انقلابات «بريكست» ودوامتها

حتى صباح السبت الماضي، بدا لأغلب متابعي دوامة «بريكست» في بريطانيا، وخارجها، أن تيريزا ماي، رئيسة الحكومة، نجحت خلال اجتماع أركان حكوماتها اليوم السابق، في الإمساك بزمام الأمور، ومن ثم وضع حد للصراع الدائر داخل حزب المحافظين الحاكم، حول أنجع سبل طلاق المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. بيد أن عطلة نهاية الأسبوع لم تمضِ بلا زوابع أراد مثيروها القول إن اتفاق الجمعة الماضي تم على مضض من جانب متشددين هدفهم إغلاق الباب بلا رجعة لأي تدخل من جانب بروكسل في الشأن البريطاني. منتصف نهار أول من أمس (الاثنين) تساقطت أوراق تين كانت تخفي حقيقة أهداف متشددي «بريكست». إنهم، باختصار، سئموا من مسايرة تيريزا ماي، وبدا لهم أن الوقت قد آن كي تُزاح من الطريق، بما يفتح الأبواب أمام انقلاب يوصل إلى «10 داونينغ ستريت» رئيس حكومة «بريكستي» متشدد، ربما من قماش جاكوب ويليام ريس موغ، أحد صقور حزب المحافظين غير القابلين بأي تعايش مع أي تداخل بريطاني - أوروبي، عندما يتعلق الأمر بالسيادة البريطانية في شؤون الهجرة، والتعامل التجاري.
بصرف النظر عما سوف تؤول إليه عواصف ما بعد خروج الوزيرين ديفيد ديفيز، وبوريس جونسون، من الحكومة، الأرجح أن يُطاح حكم تيريزا ماي خلال وقت قريب، ربما قبل المؤتمر السنوي للحزب، الخريف المقبل، ربما خلاله، أو بعده بقليل. لماذا؟ لسبب واضح يقول إنه لم يعد ممكناً، أو منطقياً، لدهاقنة المحافظين، تجاهل حقيقة أن جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال، ليس مجرد شبح، وأن «غول» إمكانية وصوله إلى رئاسة الحكومة في الانتخابات العامة المقبلة، هو خطر قائم بالفعل، ما لم ينقلب عليه، هُوَ أيضاً، دهاقنة عماليون يرى أغلبهم في تطرف سياساته اليسارية عبئاً على الحزب، وعائقاً أمام اكتساح أصوات شرائح ناخبين معتبرة، حتى بين أنصار العمال المُقترعين، تاريخياً، لصالح أي مرشح عمالي.
إذن، كما ترون، يبدو أن دوامة انقلابات «بريكست» في صفوف حزبي بريطانيا الرئيسيين، بدأت بالفعل. لكن الأمر الواضح، كذلك، هو أن ارتدادات زلزال استفتاء 23/ 6/ 2016 - الذي أوصل إلى تلك الدوامة - لن تتوقف عند ما سوف يشهد فضاء بريطانيا السياسي من اختفاء نجوم، وصعود آخرين جدد. ليس واضحاً الآن أي نوع من الصفقة يمكن لأهل الحكم في لندن التوصل إليها مع المتمترسين في بروكسل بقصد الدفاع عن وحدة الاتحاد الأوروبي. إنما يمكن القول إن مجرد قفل باب مقر الاتحاد الأوروبي الباب وراء ظهر بريطانيا نهار 29/ 3/ 2019 لن يُغيّب دوامة «بريكست» خلف شمس ماضٍ لن يقض مضجع بريطانيا لاحقاً. على النقيض من ذلك، الأغلب أن التبعات السلبية للطلاق البريطاني - الأوروبي سوف تطول عشرات، بل ربما مئات الجوانب السياسية، والعسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية، والقانونية، والاجتماعية، والبيئية، وغيرها. في الواقع، كل ما سوف يصبح موضع خلاف بريطاني - أوروبي بعد الطلاق، كان بالوسع التفاهم بشأنه بين بروكسل ولندن بأسلوب أفضل، وعلى نحو أقل ضرراً، حتى لو زعم أصحاب الفصل التام بين بريطانيا ومحيطها الأوروبي أن ذلك ينتقص من الوضع السيادي للمملكة المتحدة.
مُحيّرٌ للمرء، أحياناً، لماذا يقدم ساسة يُفترض أنهم عقلاء، على إثارة زوابع على أنفسهم وعلى أحزابهم، ومن ثم تغرق في لججها بلدانهم. منشأ الحيرة أن سياسياً مثل ديفيد كاميرون، قائد المحافظين الشاب الذي قاد حزبه إلى انتصار كاسح في انتخابات 2015، ليس شخصاً تنطبق عليه أوصاف بروسبيرو، بطل شكسبير المُتَخيّل في مسرحية «The Tempest»، أي مثير الزوابع. غير أن الذي حصل، في الواقع، وليس على المسرح، هو أن إصرار كاميرون على فضيلة الوفاء بوعد الاستفتاء الانتخابي، رغم أنه لم يكن مضطراً لذلك، أوقع حزبه في صراعات شتى، وأدخل بلده في نفق المجهول حتى أجل غير مُسمى، فضلاً عن أنه أطاح مستقبل كاميرون نفسه، وهو سياسي طامح كان يمتلك إمكانات النجاح في تحقيق وضع أفضل لبريطانيا، على الصعيدين الداخلي والعالمي. ليس ممكناً لأحد التنبؤ إلى أين ستأخذ انقلابات «بريكست» ودوامتها بريطانيا، منذ الآن وحتى موعد المغادرة النهائي العام المقبل، ثم بعده. لكن ما ليس خافياً، ببساطة، هو أن هذا البلد لم يكن بحاجة لكل هذه الدوامة، أصلاً.