سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

تجاوز سن المشاعر والأحاسيس

معروف أن «البؤساء» لفيكتور هوغو هي رائعة الأدب الفرنسي وإحدى روائع الأدب الغربي. قصة رجل بائس يدعى جان فالجان يضبط وهو يحاول سرقة رغيف فيمضي بقية حياته من زنزانة إلى زنزانة، وكلما حاول الهرب صدر عليه حكم أقسى، وكلما تخفى عثر عليه المفتش «جافير» الذي لا يمثل القانون بقدر ما يمثل الإنسان المريض، السادي، والمتمتع بالانتقام الصغير.
لا أعرف كم مرة قرأت «البؤساء» فتيا، وكم مرة شاهدتها فيلما. وعندما حولها أندرو لويد ويبر إلى مسرحية في لندن كنت أول الحضور بعدما استطعت العثور على تذكرة اشتريتها من السوق السوداء. وكان ذلك بعد سنوات من البدء في عرضها.
ما هو سر «البؤساء» ونجاحها منذ القرن التاسع عشر؟ تعاطف البشر (غير منتحلي الصفة) مع المظلومين والمساكين. لو كان جان فالجان قاتلا أو لصا كبيرا لما كان موضوع رواية، بل لكان ظل موضوع تقرير شرطة عاديا. إلا أنه هنا قضية إنسانية لا مجرد بطل رواية أو حكاية، يتنقل مظلوما في عالم من الفقراء والبؤساء والأيتام المشردين الذين لا ذنب لهم، يتفرج عليهم المجتمع دون أن يراهم.
قبل أعوام طلب المدعي العام في بلدة بادالونا البرتغالية السجن عاما ونصف العام لرجل حاول سرقة رغيف. كتب أديب البرتغال، جوزيه ساراماغو، ينصح الرجل بقراءة «البؤساء». لكنه استدرك: «لا.. لا.. هذه رواية تُقرأ في سن معيَّنة، وقبل أن يبلغ المرء مرحلة اللامبالاة».
كان ذلك، بالنسبة إليّ، أهم ما قرأت في تحليل الرواية. أتذكر الآن وأنا أشاهد من جهة هذا العالم المتوحش، اللامبالي، ومن جهة أخرى خيام السوريين في ثلوج تركيا والأردن ولبنان. صقيع القلوب الكافرة أفظع بكثير من الطبيعة وبرودة شتائها. أطفال بلا رغيف وبلا حطب وبلا وطن وبلا أمة، وعالم بلا أخلاق وبلا ضمير وبلا ذمم وبلا فروسية وبلا رجولة. عالم تجاوز سن المشاعر والأحاسيس ومخافة الله، يحيل ملايين البؤساء إلى المؤتمرات والمنظمات، من الأمم المتحدة إلى الجامعة العربية إلى جنيف واحد أو عاشر. تجاوز هذا العالم سن قراءة «البؤساء».