سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الفرص والأثمان

الحياة فرص. التاريخ فرص. الدول مثل الأفراد، لها فرصها، وحسن الحظ في ألاّ تتركها تضيع. لكن حسن الحظ يجب أن يترافق مع حسن الفطن. وحسن النيات. وحسن الحساب. نحن شعب نبكي على الفرص ونتذكر ضياعها باحتفال. لا حاجة إلى أن نعدد، فلن ننتهي من ذلك. لكن لسنا وحدنا.
لعل أشهر الفرص التاريخية كانت تلك التي أضاعها وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس عام 1954 عندما انسحب من المؤتمر الدولي حول فيتنام في جنيف. قرر المؤتمر بأكثرية الأصوات أن تجري انتخابات ديمقراطية في شمال وجنوب فيتنام. وخاف دالاس أن تؤدي النتيجة إلى توحيد الطريق. فانسحب من المؤتمر.
أدى هذا العناد، وقصر النظر، إلى نشوب حرب سقط فيها 5 ملايين بشري، وفقدت أميركا 60 ألف عسكري، وتكبدت عشرات المليارات، وتوسعت حربها إلى الجوار في كمبوديا ولاوس، وإلى حرب بالواسطة مع السوفيات والصين، وإلى زعزعة نظام الأمن العالمي. وبعد كل هذه الدورة العدمية، انتهت الحرب بأول هزيمة للآلة العسكرية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية.
كانت فرنسا قد غرقت من قبل في مستنقع فيتنام، آنذاك «الهند الصينية»، ثم انسحبت مجرجرة أذيال الهزيمة، وبدل أن يتعلم الأميركيون الدرس، اعتقدوا أن «حرب العصابات» لن تصمد في وجه القوة الأميركية الطاغية وقاذفات «بي 2». بعد دالاس تعاقب وزراء الخارجية وتعاقب الفشل. ولم يجرؤ أي منهم أن يقترح على رئيسه الانسحاب من المستنقع المتفاقم خوفاً على مصيره في الانتخابات التالية.
زرعت المنطقة بالقنابل والألغام. ولا يزال 20 ألف لغم ينفجر كل عام في لاوس وحدها. والآن تعج فيتنام الموحدة بالسيّاح الأميركيين والاستثمارات الأميركية. وعادت سايغون مدينة مفتوحة أكثر مما كانت أيام الأميركيين. ويحتفل الفريقان كل عام، في تواريخ متفاوتة، بذكرى أمواتهم في الحرب: شهداء عند هذا الفريق، قتلة عند ذاك.
ماذا لو لم ينسحب فوستر دالاس من مؤتمر جنيف وقبلت أميركا اقتراح الانتخابات؟ بل ماذا حتى لو أدّى ذلك إلى قيام دولة شيوعية أخرى في هذا العالم؟ التاريخ رؤية أولاً.