فهد الخيطان
TT

لماذا انهار «خفض التصعيد» في الجنوب السوري؟

لم يؤخر تقدم قوات النظام السوري المدعومة من سلاح الجو الروسي صوب الجنوب سوى عاملين اثنين؛ الأول الانشغال في معركة الغوطة الشرقية وتأمين محيط دمشق، وقد بلغت نهاياتها، والثاني، إنجاز التفاهمات المطلوبة مع إسرائيل حول الوجود الإيراني، وقد أبرم الطرفان الصفقة بوساطة روسية.
الطرف الثالث في اتفاقية خفض التصعيد في الجنوب الغربي، وأعني الأردن، أخذ علماً بالتطورات المحتملة قبل أسابيع من الهجوم الأخير.
المعارضة السورية التي تسيطر على مساحات واسعة من مدينة درعا وريفها، تلقت مع بداية العام الحالي إشارات صريحة عن نية واشنطن التخلي عن دعمها. لقد توقفت الإدارة الأميركية رسمياً عن تزويد المعارضة بالسلاح والدعم المادي، وأعلنت في وقت لاحق نيتها سحب قواتها المتمركزة بقاعدة التنف، بعدما أنجزت مهمتها في مساعدة «قوات سوريا الديمقراطية» بتحرير الرقة من قبضة تنظيم داعش الإرهابي.
في تلك الآونة كان البيت الأبيض يعكف وبتنسيق مباشر مع إسرائيل على إنجاز صفقة مع الكرملين، تقضي بإبعاد القوات الإيرانية والميليشيات المذهبية التابعة لها، مسافة كافية عن الحدود مع إسرائيل والأردن، مقابل السماح للقوات السورية باستعادة سيطرتها على المناطق الجنوبية.
إسرائيل فضلت أن تكون العملية العسكرية على مرحلتين لاختبار صدق الوعود السورية، في المرحلة الأولى تتقدم قوات الجيش السوري نحو المناطق المحاذية للحدود الأردنية، وبعد التأكد من عدم وجود إيرانيين ضمن تشكيلاته، يصبح ممكناً التوجه غرباً نحو المناطق المتاخمة لهضبة الجولان المحتلة.
على مدار الأسابيع الماضية تبادلت عمان وموسكو الأوراق النقاشية حول ترتيبات الوضع لمرحلة ما بعد خفض التصعيد. كان هناك تصور مشترك يقضي بتسهيل إنجاز المصالحات بين النظام والمعارضة في درعا، والأخذ بمبدأ الانتقال التدريجي للسلطات المحلية بالاعتماد على الإدارات المحلية من أهالي المحافظة، وبوجود رمزي للشرطة العسكرية الروسية، مقابل تمكين الجيش السوري من السيطرة على كامل الحدود مع الأردن.
لم يكتب لهذا السيناريو النجاح، فقد استعجل الروس ومعهم النظام السوري الزحف صوب الجنوب وتسوية الوضع باستخدام القوة العسكرية.
وافقت واشنطن على هذا التوجه، وبعثت برسائل للمعارضة السورية تفيد بهذا المعنى، وأبلغ مسؤولو الإدارة الأميركية الجانب الأردني بأن واشنطن، وإن صرحت في العلن بتمسكها باتفاق خفض التصعيد، إلا أنها نفضت يدها منه في الميدان.
مركز مراقبة وقف إطلاق النار الروسي الأميركي الأردني في عمان لم يعد يعمل بالصورة السابقة. قاعدة حميميم التي كانت تتلقى البلاغات من مركز عمان سارعت إلى التمهيد للعملية العسكرية في الجنوب بإعلانات متتالية عن انتهاك المجموعات المسلحة في درعا للاتفاق، لتبرير الهجوم العسكري.
في الأيام الأخيرة استثمر الأردنيون وجود ممثلين للجيش الروسي في عمان لإجراء محادثات مباشرة مع المعارضة السورية بهدف التوصل لهدنة دائمة، وإنجاز المصالحات للحد من الخسائر البشرية بين المدنيين ووقف التهجير.
منذ ذلك اليوم الذي تحولت فيه الأزمة السورية إلى نزاع دولي محكوم بشروط ومصالح القوى المتصارعة، صار كل تحرك للقوات السورية مرهوناً بتوافقات بين القطبين الرئيسيين؛ موسكو وواشنطن، مع حضور لافت لقوى إقليمية نافذة.
«قوات سوريا الديمقراطية» دخلت الرقة بتوافق أميركي روسي، ومعركة الغوطة أنجزت بتفاهمات إقليمية ودولية معروفة للجميع. وفي وقت مبكر كانت معركة حلب خلاصة لتفاهمات روسية تركية.
عملية آستانة المبرمجة روسياً كان لها الفضل في تحقيق الاختراقات الميدانية، فقد استبدلت بالعملية السياسية التي انطلقت من جنيف، غرفة عمليات عسكرية في آستانة، اجتذبت لصالحها دعماً أميركياً رغم دور المراقب الذي تكتفي فيه واشنطن، وقواسم مشتركة مع تركيا المسكونة بالخطر الكردي.
اتفاقية خفض التصعيد في الجنوب لم تكن ضمن مخرجات «آستانة»، بل كانت مسارا مستقلاً فرضته اعتبارات جيوسياسية متعددة. لكن أهم ما فيه من دلالات أن المعارضة المسيطرة في درعا مثلت العنوان الأبرز للقوى المعتدلة في الخريطة السورية، التي حافظت على طابعها الوطني، ولعبت دوراً محورياً في محاربة التنظيمات الإرهابية، وكانت الأكثر استعداداً لإبرام صفقات سياسية تنتشل سوريا من أزمتها.
لا يمكن لأحد أن يتنبأ بسير العملية العسكرية في الجنوب السوري ونهايتها، فالتقديرات من أطراف المعارضة تراهن على مواجهة طويلة، فيما النظام يطمح لحسم عسكري سريع. لكنْ هناك احتمال كبير بانهيار التفاهمات الروسية الإسرائيلية قبل أن تكتمل العملية العسكرية. يقول خبراء على صلة وثيقة بمسرح العمليات إن إسرائيل ستتحرك على الفور إذا ما تأكد لها وجود مجموعات إيرانية أو «حزب الله» ضمن التشكيلات العسكرية قرب حدودها، وستضرب بقوة لمنع تمدد الجيش السوري والإيرانيين.
اتفاق إسرائيل مع روسيا في الأصل لا يقيد حقها في استخدام القوة ضد إيران في عموم مناطق سوريا، وقد صرحت تل أبيب بذلك بكل وضوح. بمعنى آخر اتفاق استعادة الجنوب مجرد خطوة تكتيكية مقيدة بشروط واضحة لن تمنع إسرائيل من توجيه ضربات في سوريا، كان آخرها قصف مخازن أسلحة بمحيط مطار دمشق الدولي.
هناك جهود تبذل في الوقت الحالي لتسوية بين الطرفين تجنب سكان الجنوب السوري شرور القتال، لكن من المبكر الحكم على نتائجها. في الأثناء تبرز معالم أزمة لجوء يتحسب الأردن من مآلاتها، ولهذا استبق الضغوط الدولية بموقف صارم يرفض فتح حدوده أمام حركة لجوء جديدة بعد أن أثقلت أزمة اللاجئين السوريين كاهله، وسط تخاذل دولي عن مساعدته.