إميل أمين
كاتب مصري
TT

إردوغان والنمسا... حذار من فخ الكراهية

وسط الصخب الذي ساد الأخبار حول العالم في الأسابيع الأخيرة، لم يلتفت الكثيرون إلى ما يجري في النمسا من جدل حول إقدام السلطات النمساوية هناك على إغلاق 7 مساجد، واعتزامها طرد نحو 40 إماماً، غالبيتهم من الأتراك، أما السبب وراء تصاعد هكذا أزمة، فيتصل بإشكالية «الإسلام السياسي»، وخلط الشعائر الدينية بمشاعر السياسة والتاريخ، وما يحملانه من ذكريات مشحونة بالكراهية بين البلدين.
يعيش في النمسا نحو 600 ألف مسلم، جلّهم من الأتراك، يتمتعون بممارسة شعائرهم الإيمانية بشكل طيب، فالنمسا تضمن حرية الاعتقاد والدين، لكنها وضمن السياقات الأوروبية في الأعوام الأخيرة التي ضرب فيها الإرهاب الكثير من المدن الأوروبية، بدأت في التضييق على أفكار ومشروعات الإسلام السياسي، أي الجماعات والمنظمات التي يقوم أساسها الآيديولوجي على رؤى ومنطقات دينية، وتسعى إلى خلق ما يشبه «الغيتو» المعاصر نسقاً لحياتها في العقود المقبلة، الأمر الذي أعطى اليمين النمساوي فرصة كبيرة للصعود في الانتخابات الأخيرة.
في تصريحاته الأخيرة كان وزير الخارجية النمساوي سباستيان كورتس المنتمي للحكومة اليمينية، يؤكد أن إجراء غلق عدد من المساجد وطرد أئمة بعينهم من البلاد هو بداية فقط لحرب على «الإسلام السياسي»، والتمويل الخارجي للجماعات الدينية.
ولعل ما استدعى تلك الإجراءات السريعة، التي اعتبرها البعض قاسية، قيام مسجد بحي فافوريتن في فيينا، الذي تديره الجمعية الإسلامية التي يشرف عليها أئمة أتراك بعرض مسرحية تحيي ذكرى مرور مائة عام على واحدة من أكبر معارك الحرب العالمية الأولى، معركة «غاليبولي» أو «حملة الدردنيل»، وفيها ارتدى الأطفال من النمساويين المسلمين ملابس الجنود العثمانيين، ومثلوا أدوار قتلى في المعركة، وقد غطوا بالأعلام التركية.
اعتبرت السلطات النمساوية الحدث تأطيراً لمشاعر الكراهية داخل المجتمع النمساوي، وإحياءً لنعرات دينية وقومية تؤثر على السلم الاجتماعي داخل النمسا، عطفاً على ذلك فقد بدا أن هناك مخالفات لقوانين التمويل الأجنبي التي أقرتها الدولة منذ فترة، في محاولة منها لإغلاق منابع الإرهاب على أراضيها، الأمر الذي أكده مدير مركز بروكسل الدولي للبحوث وحقوق الإنسان رمضان أبو جزر. هل هي حرب ضد الإسلام والمسلمين في النمسا؟
الجواب يقتضي الكثير جداً من الحكمة والحنكة، لا سيما في ظل هذه الأوقات المشحونة بالتوتر الديني والعرقي الذي يجتاح أوروبا رجع صدى لما جرى في العقود الأخيرة من تصاعد لحركات «الإسلام السياسي»، ووجود أبواق تتلقف الإجراءات المشابهة لتصنع منها قضايا شائكة تسخرها لصالح حضورها ونفوذها.
من بين تلك الأصوات يجيء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي وجه لمستشار النمسا خطاباً استعلائياً لم يناقش فيه أسباب الأزمة الأخيرة، وإنما عمد مباشرة لإحياء النعرة العثمانية، قال فيه: «ما زلت شاباً وعليك اكتساب الخبرة والتجربة. ولتعلم أن إغلاق المسجد وطرد رجال الدين الإسلامي من النمسا قد يشعل فتيل صراع جديد وتكون أنت المسؤول عن ذلك».
إردوغان مضى في تصريحاته لسكب الزيت على النار، وبكلمات تعمق الشرخ في الجدار الإسلامي الأوروبي، والنمساوي تحديداً، حينما أضاف: «نحن أيضاً لدينا آليات وخطوات يمكننا أن نقدم عليها، وفي النمسا يوجد نحو 250 ألفاً من إخوتنا، ولن نسمح بتعرضهم للظلم»، الأمر الذي يستدعي من الرأي العام النمساوي التساؤل عما يعنيه إردوغان بنظرته تلك للنمساويين من المسلمين، الذين قد يصبحون في نظر النمساويين طابوراً خامساً.
إردوغان يقيم مقاربات لا يمكن أبداً أن تستقيم، لا سيما حينما يؤكد أنه «لا يوجد فارق من حيث العقلية بين تهجير مسلمي إقليم أراكان في ميانمار، وبين إغلاق مساجد المسلمين في أوروبا».
لكن على الجانب الآخر هل أخطأت السلطات النمساوية، أو في أضعف الأحوال، تسرعت في قرارها الأخير؟
لا أحد ينكر على الشعب النمساوي حقه في الأمن والأمان، وفي حماية شعبه من الإرهاب، غير أن إغلاق المساجد على هذا النحو أمر يثير أي مسلم حول العالم، وليس في النمسا فقط، فالمساجد بيوت عبادة لله لا يجب إغلاقها، وإذا كان القائمون عليها من الأئمة الأتراك أخطأوا، فإن ذلك ليس مبرراً لإغلاقها مرة واحدة، فقد كانت هناك خطوات أخرى مسبقة يمكن القيام بها من قبيل الإنذار والتحذير، والاكتفاء بوضعها أماكن للصلاة والتعبد، لا للأنشطة ذات الملمح والملمس السياسي أو التاريخي المطعم بمرارة الماضي.
وربما كان يحق للسلطات النمساوية حال تكرر الخطأ أن تسحب إدارة تلك المساجد من هؤلاء الأئمة، وتعهد بها إلى فريق آخر من أصحاب رايات الإسلام السمح والمعتدل، الذي يتجاوز عن أخطاء الماضي من أجل صلاح الحاضر وازدهار المستقبل.
الحكمة والتعقل مطلوبان من الجانبين التركي والنمساوي في هذه الأيام من أجل خير الشعوب والأمم والأديان، فلدى العالم ما يكفي من أسباب ومبررات لإشعال الحرائق، في حين تبقى الحاجة إلى صناع السلام وبناة الجسور.