غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»
TT

محركات المستقبل السعودي

لا غرابة أن يتوافد صحافيو كبرى وسائل الإعلام في العالم لمشاهدة السعوديات ينطلقن بسياراتهن في شوارع المملكة. ولا غرابة أن يستأثر الحدث باهتمام دول قريبة وبعيدة. فما يجري في السعودية يعني السعوديين والعالم معاً. إنها دولة مهمة بسبب موقعها العربي والإسلامي والدولي. ثقلها الاقتصادي والسياسي والديني يدفع الكثيرين إلى متابعة ما تعيشه خصوصاً في هذه المرحلة.
لا يمكن فصل التطور الجديد المتعلق بالمرأة السعودية عما تعيشه المملكة منذ عامين تقريباً. في اعتقادي أن أبرز ما حصل هو إطلاق حالة من الأمل داخل المجتمع، وخصوصاً لدى الشرائح الشابة وهي تشكل الأكثرية الساحقة. ومن دون حالة الأمل هذه، لا يمكن تذليل الصعوبات ولا ترجمة السياسات وتحصينها. فحالة الأمل هي استدراج للطاقات بغية توظيفها في معركة المستقبل.
من يعرف السعودية يعرف أن حالة الأمل هذه هي الرافعة للبرنامج الطموح الذي طرحته «رؤية 2030». أصعب ما يمكن أن تصاب به دولة هو استسلام شبابها وشعورهم أن الأشياء لا يمكن أن تتغير أو تتقدم. أو أن يعتبر الشباب أن الحديث عن المستقبل يدخل في باب الدعاية أو الإجراءات التجميلية.
من يعرف السعودية يدرك أن الشباب السعودي لم يعد يجلس في موقع المتفرج أو المنتظر. إنه منخرط تماماً فيما يمكن اعتباره ورشة إصلاح وتحديث شاملة لا بد من أن تنعكس على مختلف مناحي الحياة.
أخطر ما يمكن أن يصاب به شعب هو أن يعتبر أن أبواب الأمل موصدة، وأن الجدران أكثر من المفاتيح. وأن السلامة تقتضي ترك الأشياء كما كانت، وأن فتح الملفات يعني فتح أبواب المجهول. وأخطر ما يمكن أن يصاب به شعب هو أن يعتقد أن المستقبل لن يكون في أفضل الأحوال أكثر من تكرار للماضي. الاستسلام لمشاعر من هذا النوع يدفع الدول إلى التقاعد والشيخوخة والجلوس على رصيف العصر.
اختارت السعودية السير في الاتجاه المعاكس لحالة الإحباط واليأس المستشرية في مناطق واسعة من الشرق الأوسط. أدركت القيادة السعودية أن معركة المستقبل تبدأ الآن. وأن الانتظار لا يمكن أن يكون أفضل مستشار. وأن العالم ينطلق بسرعة نحو المستقبل، وأن حجز مقعد في هذه الرحلة يستلزم قرارات مهما كانت صعبة وإرادات مهما كانت الصعوبات. وبدا واضحاً أن القيادة استمعت بدقة إلى الرسائل التي يبعث بها المستقبل إلى الراغبين في الانتماء إليه. واستمعت بالمقدار نفسه إلى تطلعات الناس وتوقهم إلى تحسين أوضاعهم وتحصين دولتهم.
نجحت القيادة السعودية في العامين الماضيين في جعل موضوع المستقبل البند الأول في اهتمامات السعوديين. فهو يعني كل فرد منهم. يعني فرص التعليم وفرص العمل. ويعني شروط الحياة الكريمة. وبناء اقتصاد لا يتوقف مصيره على أسعار النفط وحدها. ويعني في الوقت نفسه الانخراط في ورشة التقدم في العالم الذي يشهد على نحو غير مسبوق ثورات علمية وتكنولوجية متواصلة. ونجاح معركة بهذا الحجم يعني الحاجة إلى تغيير في الأساليب والذهنيات والعادات.
في هذا السياق جاءت النقاشات التي شهدتها السعودية حول برنامج التحول الوطني ومراحل «رؤية 2030». تحقيق الأهداف يستلزم التفكير بطريقة أخرى والعمل بوسائل مختلفة وتوفير التشريعات والمناخات اللازمة لاجتذاب المستثمرين والسياح. وفي هذه الأحوال لا يكفي تغيير النصوص، بل لا بد من تغيير عادات استحكمت وقناعات ترسخت. أي أنه لا بد من تأهيل مجتمع بأسره لأن تجاوبه هو الشرط الأول لتحقيق البرامج الكبرى.
وانطلقت القصة من ثقة متبادلة. قيادة تثق بالناس وتجيد الاستماع إلى همومهم. ومواطنون يثقون بقيادتهم ويأتمنونها على مصالحهم ومصير البلاد. على قاعدة هذه الثقة المتبادلة طرحت البرامج الطموحة التي سرعان ما أبرزت ملامح سعودية جديدة لا تتردد في التصدي للمشكلات حتى لو كانت أدرجت سابقاً في باب المسائل التي تصعب مقاربتها.
لا يمكن لعملية تحول كبرى بهذا الحجم أن تنجح ما لم ينخرط فيها المواطنون بكامل طاقتهم. ولضمان هذا الانخراط الواسع لا بد من إزالة المعوقات التي تحول دون ذلك. ولم يكن سراً أن أعرافاً وعادات أدت إلى وضع حدود صارمة أمام قدرة المواطنة السعودية على التحرك في صورة طبيعية للنهوض بدور أكبر في العائلة والمجتمع. وكان لا بد من الالتفات إلى أن السعوديات يرغبن في الاضطلاع بدورهن كاملاً في العمل والإنتاج وبناء المستقبل الفردي والعائلي والوطني. وفي هذا السياق، جاء قرار الملك سلمان بن عبد العزيز السماح للمرأة بقيادة السيارة كخطوة في برنامج تمكين المرأة. وكانت المسافة الزمنية الفاصلة بين صدور القرار والموعد الذي حدد للتنفيذ كافية للشرح والإعداد وتوفير التشريعات اللازمة والضامنة لحسن تنفيذ القرار.
ردود الفعل على رؤية السعوديات يقدن سياراتهن في شوارع المملكة لا تنفصل عن حالة الأمل التي أطلقتها القيادة السعودية والتي أسهمت ديناميكية ولي العهد الداخلية والخارجية في ترسيخها. لقد اتخذت السعودية قراراً قاطعاً بالاتجاه نحو المستقبل، وهذا ما يفسر البرامج الطموحة والمشاريع العملاقة والقرارات الجريئة. ولأن التجربة السعودية في إطلاق المحركات باتجاه المستقبل جديدة في منطقة يفترسها اليأس بفعل الحروب أو الفشل الاقتصادي، لم يكن غريباً أن يواكب العالم ما يجري في السعودية، وأن يتوافد الصحافيون لمتابعة بعض ملامح السعودية الجديدة. فكل ما يجري منذ عامين يندرج في باب حشد الطاقات وإطلاق المحركات في اتجاه بناء المستقبل السعودي. وطبيعي أن تراقب المنطقة ومعها العالم تجربة بهذا الحجم في دولة بمثل هذه الأهمية.