علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل تحتاج «الأمجاد» لحروب الاسترداد؟

لأن الدكتور أحمد العيسى لم يتنبه للأهمية القصوى التي يحتلها الجهاد في أطروحة الإسلام الأصولي، من حيث إنه جهاد يقوم على المبادأة والمبادرة، وأنه ركن أساس في الإسلام قد عطّل العمل به، وأن المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية لا يكونان إلا به، وأن أصحاب تلك الأطروحة بدعوتهم هذه كانوا «يناضلون» ضد الرأي البارز لدى نخب دينية ومدنية في العالم العربي، والمستقر عند جموعه والذي تحدثنا عنه في المقال السابق. ولأنه لم يتنبه لمغزى تأكيد الإسلاميين الأصوليين الذين أعدوا وثيقة سياسة التعليم السعودي عليه في أكثر من بند، فلقد قدّم هذا الحل: أن القطاع العسكري - لا القطاع التعليمي - هو الذي تقع على عاتقه مسؤولية «الدفاع عن البلاد» و«الجهاد في سبيل الله».
إن البنود الثلاثة المتعلقة بالجهاد - والتي أشار إليها هو - لا يوجد فيها التعبير الذي استعمله - وأعني به «الدفاع عن البلاد» - ولا أي تعبيرات أخرى تقوم مقامه، فكلها مكرسة لـ«الجهاد في سبيل الله».
البند الأول تضمن حكم الجهاد. وخاتمته التي لم يوردها في إشارته كانت جملة تؤكد ديمومته واستمراره في الحياة الدنيا.
والبند الثاني ينادي بإيقاظ روح الجهاد الإسلامي لمقاومة «أعدائنا واسترداد واستعادة أمجادنا والقيام بواجب رسالة الإسلام».
لنتأمل في هذا البند، ونسأل: من هم هؤلاء الأعداء؟ حروب الاسترداد أو حروب الاستعادة تشن من أجل استرداد أو استعادة أراضٍ احتلها أو سلبها أو استوطنها أجانب، فهل «الأمجاد» السالفة - وهي في هذا السياق شيء معنوي أو كيان لا مادي - لأمة أو شعب من الممكن أن تحتلها أو تسلبها أو تستوطنها أمة أو شعب آخر، ويدعي أنها ملكه، وأنها من إرثه؟! وما الذي يحول بين المسلمين بصفتهم أمة أو مجتمعات أو جماعات أو أفراداً وبين أن يقوموا برسالة الإسلام؟ وما المقصود برسالة الإسلام هنا؟
الوثيقة - للتذكير - كتبت بعيد نهاية عصر الاستعمار وفي ظل الحرب الباردة. فالأعداء في ذلك البند - بحسب تعبير الإسلاميين - «الغرب الصليبي العلماني الكافر والشرق الشيوعي الملحد». والغرب عند الإسلاميين الأصوليين في مقدمة الأعداء وعلى رأسهم... وذلك نظراً للنزاع التاريخي المسلح الطويل بينه وبين عالم الإسلام، والذي انتهى بانتصاره العسكري وتفوقه العلمي والثقافي والحضاري على عالم الإسلام وعلى كل العوالم في العصور الحديثة... ونظراً للتأثير والتحول الثقافي الكبير الذي أحدثه في عالم العرب وفي عالم المسلمين منذ ما قبل القرن الماضي. أما الشيوعية التي يمحضها الإسلاميون العداء؛ كل العداء، فكانوا يحكمون بأنها جزء أساس في الثقافة الغربية. وهذا حكم لا خلاف عليه.
أمجاد المسلمين محفوظة ومصونة في سجل التاريخ، ولم يسرقها أو ينهبها الغرب ويخفيها عنهم، وهم يعرفون ذلك، وإنما يعنون بكلمة «الأمجاد» في هذا المقام استئناف النزاع المسلح أو الحروب الدينية ما بين المسلمين والغرب لتكون الغلبة للمسلمين. فشن الحروب الدينية على غير المسلمين يرونها من أساسيات رسالة الإسلام. ورسالة الإسلام من منظورهم يمثلها ويتمثلها على نحو صحيح، الإسلام الحركي الذي صاغ ملامحه الأساسية أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي.
إن جملة «إيقاظ روح الجهاد الإسلامي» التي استعملوها في مفتتح ذلك البند، تشير إلى حقيقة تاريخية، وهي أن تلك الروح ساخت في أرض الإسلام، وذبلت في الحياة الإسلامية منذ قرون مديدة، وتشير إلى أنهم يريدون إحياءها وإيقاظها من سباتها التاريخي الطويل.
البند الثالث الذي يأمر بـ«إعداد الطلاب للجهاد في سبيل الله روحياً وبدنياً» يتحدث مباشرة عن تهيئتهم وتجهيزهم روحياً وبدنيا ً(!) لتلبية نداء الجهاد إذا ما دقت ساعته!
هذه البنود - كما ترون - لا تأتي على أو تتضمن مبدأ «الدفاع عن البلاد». والذي يقرأ كتاب العيسى ولم يطلع على نص الوثيقة، سيعتقد أنها أتت عليه أو تضمنته، بدليل أنه أورده في الحل الذي قدمه. وربما أعتقد أنها فعلت مثله، جاعلةً المبدأ المحدد (الدفاع عن البلاد)، يتقدم في الترتيب على المبدأ المطلق (الجهاد في سبيل الله).
قد يقول قائل إنني في المقال ما قبل السابق قلت عن الدكتور أحمد العيسى، إنه ربما سها عن ذكر بند يقول: «يجب أن تكون المواقف التعليمية المختلفة مجالاً لإلهاب مشاعر التلاميذ بإعدادهم للذود عن الوطن والتضحية في سبيل الله، ثم في سبيله، عن طريق الأناشيد والتمثيل والقصص والنشاط الرياضي». وهذا البند نص على «الذود عن الوطن» على نحو مبين وبارز.
أرد على اعتراض وجيه كهذا، بتوضيح يرفع الالتباس عن تماسك تلك الملحوظة، وهو أن ذلك البند الذي نُص فيه على «الذود عن الوطن» ورد ضمن بنود وضعت في خانة في الوثيقة كان عنوانها: «الاعتزاز بالوطن والإخلاص لولاته، هدف أساسي من أهداف المرحلة الابتدائية». وفي المرات التي ذكر فيها الوطن، كان الوطن ملحقاً بالأمة العربية والإسلامية وبالوطن العربي والإسلامي. وفي ذلك البند الذي ذكر فيه «الذود عن الوطن»، كان الذود عنه مستتبعاً للتضحية في سبيل الله. والتضحية في سبيل الله تعني هنا الجهاد الإسلامي، وإذا ما أمعنّا النظر في محتوى البند نعرف أنه كان يفترض أن يتحدث عن بث «الروح الوطنية» وإنمائها لدى النشء الصغير عبر الأناشيد والتمثيل والقصص والنشاط الرياضي، ولكنهم ضد استعمال تعبير كالتعبير السابق، فاستعاضوا عنه بتعبير «الذود عن الوطن» الذي هو في ملتهم أخف وزراً من «الروح الوطنية»، وأقحموا عليه تعبير «التضحية في سبيل الله» لضبطه وتحديد مساره. وكأن سبيل الوطن إذا ما ذكر مفرداً لا يلتقي بسبيل الله!
إنك تلمس أن ذلك العنوان لتلك الخانة، بعد أن تتدسس بالقراءة بين سطور الوثيقة، كان عنواناً مقحماً على متنها، وأنه وضع لرفع العتب ولذر الرماد في العيون. واستناداً إلى هذا التوضيح، لا يمكن أن نعتد بعبارة «الذود عن الوطن» الواردة في ذلك البند، ونعد أن عبارة العيسى «الدفاع عن البلاد» قد قامت مقامها. وللأهمية القصوى التي يحتلها الجهاد في أطروحة الإسلام الأصولي، بالمعنى المشروح أعلاه، أعد الإخوان المسلمون كتاباً في آخر سنة من عقد الستينات، عنونوه بـ«الجهاد في سبيل الله»، وأوهموا القارئ أنه اشترك في تأليفه أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب. والكتاب عبارة عن محاضرة للمودودي عنوانها: «الجهاد في سبيل الله» مترجمة إلى العربية ومطبوعة في كتاب في مطلع الخمسينات بمصر، ورسالة عن الجهاد كانت ضمن كتاب «مجموعة رسائل حسن البنا»، وكلام لسيد قطب عن الجهاد مستل من كتابه «في ظلال القرآن».
هذا الكتاب طبع أول ما طبع في بيروت. وإدراجه ضمن المكتبة المدرسية في السعودية، كان وراءه معدّو الوثيقة الذين كانوا يريدون أن يكون المجتمع والدولة في السعودية «ثكنة دينية عسكرية جهادية». وهذا ما نستخلصه من كثير من بنود الوثيقة ومن مقالات لأبي الحسن الندوي متعلقة بجزيرة العرب وبالسعودية. وأبو الحسن الندوي - بالمناسبة - تضمنت الوثيقة بعض أفكاره واصطلاحاته الكتابية.
ولأنهم كانوا يريدون ذلك، فـ«الجهاد» بالمعنى الذي يدعون الناس إليه، يرفضون أن يكون محصوراً ومنحصراً بالقطاعات العسكرية والجيش النظامي، بل سعوا إلى بث وعي إسلامي راديكالي يكون الجهاد فيه من مهام كل فرد. وهذا الوعي يبث فيه ابتداء من سنواته الأولى في الدراسة.
أظن أنه ليس خافياً تماماً على الدكتور أحمد العيسى ما معنى «الجهاد» عند مُعدّي الوثيقة، لأنه كان هو المعنى السائد في فكر الصحوة الإسلامية وعند المتأثرين بفكرها من عامة الناس. وليس خافياً عليه تماماً ما المراد من التأكيد عليه في أكثر من بند في الوثيقة، مع تغييب اختلاف الرأي في الجهاد عند العلماء الأقدمين والعلماء المحدثين. لكنه تحاشى طرح مشكلة الجهاد في الوعي الإسلامي المعاصر، ولجأ إلى حل تبسيطي بسّط فيه هذه المشكلة كثيراً، وفي الوقت عينه يجنبه حرج الدعوة إلى مراجعة المعنى السائد للجهاد وإعادة النظر فيه.
أذهب إلى هذا الظن، لأنه في الحل الذي قدمه كان ينطلق من مناقشة داخلية، تراعي معتقدات الإسلاميين حول قضية الجهاد، فأضاف إلى مهمة «الدفاع عن البلاد» المنوطة بالقطاع العسكري مهمة «الاستعداد للجهاد في سبيل الله»!
وهنا يحق لنا أن نسأله باستنكار: هل كانت السعودية دولة جهادية ومطلوب منها في حله أن تكون كذلك، أم إن هذا هو ما كان يريده منها الإسلام الحركي؛ ومنهم معدّو الوثيقة؟! وللحديث بقية.