د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

حول دور الشعراء في زمن الشر السائل

أي دور للشاعر العربي اليوم في زمن يَصفه أحد المفكرين بالشر السائل، على منوال تعبير الحداثة السائلة؟ نحن نطرح هذا السؤال وعيننا على الواقع العربي الراهن، الذي يشهد حراكاً غير مسبوق على جميع الأصعدة، ويحيا حالة من التردد القيمي والرمزي بين منظومات ثقافيّة مختلفة. فكما هو معروف ظلّ الشّعر على امتداد الأزمنة والأمكنة واختلاف المجتمعات وتعدّدها، حاجة إنسانية أساسيّة لا يمكن إنكارها أو التهوينُ من شأنها. فهو فنٌّ لا يمتاز بالعراقة والرّيادة والفرادة فحسب، بل إنه يشكّل مصدر معارف ومستودع قيم، وهو ما بوأه مكانة الذّاكرة في ثقافتنا العربية. طبعاً لا يفوتنا علو تلك الأصوات التي بدأت تتعالى منذ سنوات معلنة خبر نعي الشعر، وأن الإنسانية باشرت زمن الرواية بديلاً عن الشعر. ولكن نعتقد في مقابل هذه الأصوات أن التاريخ الفني الثقافي أثبت أن الشعر لم يكن في أي زمن ترفاً بقدر ما هو ضرورة. فكل شيء يستمد قيمته من وظيفته.
ضمن هذا التصوّر الوظيفي لدور الشعر وتأثيره في حياة الفرد والمجتمع، فإنه يصحّ طرح السؤال القديم الجديد حول وظيفة الشاعر وتفكيك التركيب الوظائفي للفعل الشعري، سواء في علاقته بالمخيال الاجتماعي والتمثّلات أو صلته المباشرة بتشكل المعيش اليوميّ. ومن ثمّة، فإن مقاربة الفعل الشّعري مقاربة بنيويّة وظيفية وأخرى عقلانيّة تحاول تشريح الفعل الشّعري وتبيان أهدافه، تبدو لنا مسألة ذات مصداقية فيما يخصّ وجاهة الطّرح وموضوعية مبرّراته.
وإذا ما قلّبنا مليّاً التراث الشّعري الإنساني في مختلف الثّقافات، وجدنا أنّه كان على مرّ العصور يضطلع بمهمة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تعليمية أو دينية، وهي مهمة تفصح عن نفسها بطريقة مباشرة حيناً وبطريقة غير مباشرة حيناً آخر.
وإن الفعل الشعري هو عملية اتصالية تفاعلية مركّبة، يمثل فيها عنصر الرّسالة مكوّناً رئيساً لما تتضمنه هذه الرّسالة من أفكار وأطروحات وقيم ونظرة للعالم والإنسان، تُحدد جميعها وظيفة الشّاعر (الباثّ) أو منتج القصيدة.
لقد شغل سؤال دور الشّعر ووظيفته الشّعراء كما النّقاد وحتى بعض عامة الناس. ذلك أن هذا السؤال يضع الفعل الشّعري أمام جدواه ومقدار أهميّته وعمق الحاجات التي يُلبيها ويُشبعها ومضامين الوظيفة المنوطة بعهدته.
ذهب الشّاعر الإنجليزي ت.س.إليوت (1888 - 1965) إلى أن وظيفة الشعر تختلف باختلاف العصر. وقد سبقه في التلويح لهذه الإشراقة النّقديّة بيرسي بيش شيلي (1792 - 1822) بتأكيده أنّ الشّعر آلية للتّغيير الثقافي وللتأثير في القيم والمعايير الاجتماعيّة، وهو ما نفهم منه وجود رابطة وعلاقة سببيّة جدليّة قائمة الذات بين القصيدة وزمن كتابتها، أي أنّها - القصيدة والتجربة الشعرية عموماً - نتاج لحظتها التاريخية وشروطها الاجتماعية.
ولا يشذ الشعر العربي، مجال اهتمامنا، عن التصور الوظيفي العام للنصّ الشعري، وإن كانت هذه الوظيفة مُتغيرة ومتحركة في كل العصور ومع كل المدارس والتيارات الشعرية.
فمنذ العصر الجاهلي نهض الشاعر بوظيفة الفارس وحارس القيم، وصولاً إلى العصور الحديثة، حيث اضطلع بدور الرّائي والمُخلص والفادي، ظلّ الشّعر واحداً في تعدّده، مُتجانساً في اختلافه. إذ لم يتخلّ الشّاعر العربي عن البعد الوظيفي للقصيدة، وإن اتخذت مدوّنة الشّعر الحديث أشكالاً جديدة، جعلت البعض يظنّ أن دور الشّاعر العربي في مجتمعه قد تراجع وصوته قد خفت فلم يعد بصر المجتمع وبصيرته ولسانه أو نبضه.
وإذا نحن تأمّلنا المدرسة الإحيائيّة إحدى مدارس الشّعر في العصر الحديث، نجد أنّ رموزها المعروفين مثل محمود سامي البارودي (1839 - 1904) وأحمد شوقي (1868 - 1932) ومعروف الرصافي (1875 - 1945) قد نهضوا بوظائف عديدة منها وظيفة الدّفاع عن القيم الوطنيّة ومقومات الهوية العربية من لغة ودين وتاريخ وعادات وتقاليد، حيث بدا الشعر في صورة الحارس الأمين للذّاكرة الجمعيّة والمؤتمن على الرأسمال الرمزي الثّقافي العربي.
وهي وظيفة حتّمتها طبيعة المرحلة التاريخيّة، وتصدع العلاقة مع الآخر وطغيان الوظيفة الاحتجاجيّة النضاليّة ضد الاستعمار وأشكال استهداف الهوية، فكان تطويع مضمون القصيدة لخدمة قضايا التحرر العربي.
ومع ظهور المدرسة الرومانسيّة حصل نوع من الانفتاح على الآخر، وتبنى الشّاعر العربي في خطابه الشّعري القيم الجديدة التي بشرّت بها الليبرالية الرأسمالية كالحرية والمساواة والمدنية. كما تبنى الشّعر المعاصر مفهوم الالتزام الذي كثيراً ما سلك نهجاً آيديولوجياً وجّه صوره وأقنعته ورموزه. وفي هذا السياق نستحضر تجربة الشعراء الروّاد من أمثال عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور. وفي هذا السياق أيضاً يتنزّل شعر المقاومة الفلسطيني ورمزها الرّاحل محمود درويش قبل أن ينعطف دوره الشعري في دواوينه الأخيرة على وظيفة مغايرة، انتقل فيها إلى فضاء الكوني والإنساني العام.
وإلى جانب هذا النمط من الشعر الذي تبنى مفهوم الالتزام، نجد نمطاً آخر ذهب إلى أن وظيفة الشعر هي وظيفة جمالية وفنية وليست آيديولوجيّة أو سياسيّة. من جهته أستاذ الشعر العربي وإنشائيّة الشعر الدكتور مبروك المنّاعي يأخذنا إلى منطقة تفكير أخرى يقول فيها إنها تبتغي أن تبيّن كيف أنّ الشعر ضرورة نفسيّة - وجوديّة ووسيلة لتهوين تحمّل الإنسان له، وأداة لتهذيب النفوس وعامل من عوامل تجديد اللّغة، وشكل من أشكال الحضور في العالم وحاجة من حاجات الإنسان الكبرى...
نعم الشعر ضروري ووظيفته اليوم أكبر من الأمس، وبما أن صلتنا بالشعر قوية وقديمة، فإن الرهان اليوم كيف نوظف الشعر في التغيير الثقافي وتجديد علاقة الإنسان العربي بالعالم والحياة والجمال. أليس الشعراء هم صناع الخير السائل في وجه الشر السائل؟