محمد السيد صالح
كاتب مصري
TT

شيوخ الوسطية

الفضائيات العربية، وخاصة القنوات السعودية والمصرية الجديدة، عليها دور أخلاقي بالتحيز لدعاة الوسطية والاعتدال، وتقليل فرص ظهور الدعاة غير الدارسين في معاهد دينية متخصصة، الذين انتشروا في ساحة الدعوة وفي المساجد والفضائيات بفعل فاعل طوال الثلاثة عقود الأخيرة. أشدد على هذا «الدور الأخلاقي» من منطلق أن فضائيات عربية شقيقة أخرى هي التي خلقت هؤلاء الدعاة في ظروف سياسية وإعلامية مختلفة. بلا شك كان الهدف نبيلاً؛ تقريب فئات شابة، ومن طبقات اجتماعية عليا التصقت بالأفكار الغربية، من دينها وقيمه. بعضها درس هناك، واطلع على ما يقوم به القساوسة والمبشرون في الكنائس وعلى فضائيات بعينها. بعضها مشاهداته مرتفعة للغاية. يفهمون ما تحتاج إليه كل الطبقات، غير متزمتين ولا متشددين. دروسهم وخطبهم وعظاتهم أقرب لمحاضرات ودروس خبراء التنمية البشرية. في المقابل كانت لغة الحوار للشيوخ الرسميين في الدول الكبرى مثل مصر والسعودية وسوريا والأردن وتونس والجزائر تقليدية ورتيبة، تابعة للخط السياسي الذي يريده كل نظام. في هذا الوقت، أتذكر كيف جرى التجهيز لأول برنامج لعمرو خالد على فضائية عربية كانت تبث برامجها حينئذ نهاية التسعينات من القرن الماضي. تم تخصيص إحدى دور العرض السينمائي لهذا العرض وسط القاهرة. كانت صالة العرض كاملة العدد مع كل تسجيل للشيخ، الذي لم يدرس أي مواد فقهية أو شرعية على الإطلاق، بل كانت شهادته بكالوريوس تجارة. كان هناك من يسعى إلى حضور درسه الأسبوعي في مسجد الحصري بمدينة السادس من أكتوبر الملاصقة للقاهرة. كانت الحافلات تنطلق بالمريدين من التحرير، ومن ميدان لبنان إلى مسجد الحصري.
كان السائقون ومساعدوهم ينادون على الركاب القاصدين المكان: «درس عمرو خالد». أخذ الرجل شهرة إضافية من مريديه وشهرتهم، من فنانين وسياسيين ورجال أعمال ورياضيين. أتذكر ما تردد قبل خمس عشرة سنة تقريباً، بأن هايدي زوجة علاء مبارك تحضر دروس عمرو خالد، وأنها اعتزلت الحياة العامة وارتدت الحجاب.
وأتذكر أن عائلة الرئيس مبارك - وكان حينها في الحكم - حرصت على ظهور هايدي، بعد عدة أسابيع على انتشار هذه الشائعة، وسط أفراد العائلة، وكانت بملابسها العادية ومن دون حجاب كرسالة مباشرة لنفي هذه الشائعة. عمرو خالد اختفى عن الساحة لشهور طويلة بعد هذه الواقعة. وعندما عاد، كان من خلال الفضائيات فقط. هناك كثيرون، وأنا منهم، لا نقتنع بعمرو ولا منطقه ولا علمه، بل إن زملاء صحافيين وشيوخاً أفاضل تعمقوا في منهجه الديني ووجدوه ضحلاً. تحدثوا عن علاقاته بجماعات بعينها، وأنه يجيد الانقلاب كثيراً في جميع مراحل حياته، وكلما تغيرت الظروف السياسية أو المالية.
نجومية خالد لم تخفت تماماً. في الأعوام الأخيرة، انتقل من قناة إلى أخرى ومعظمها بتمويل عربي، ومع تألقه ومكاسبه ظهرت له نسخ مقلدة في كل الفضائيات بلا استثناء، بل إن فضائيات سلفية، وأخرى شبه جهادية تعلمت من منهجه الإعلامي ومقدرته على التواصل بالجماهير. صنعت هي الأخرى دعاة جدداً جهاديين ومتطرفين في أفكارهم أو في رفضهم الآخر. من النادر الآن أن تعثر على داعية دارس وسطي خريج الأزهر أو الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، أو مجمع الفقه الإسلامي الدولي، أو جامعة الأمير عبد القادر، أو جامعة القرويين وغيرها من المراكز الوسطية، له درس دين منتظم على أي فضائية عربية. ضيوف على استحياء. الهواء والأموال والإعلانات والدعم يأتي فقط لهؤلاء الدعاة من عينة عمرو خالد. أحدهم يظهر على فضائية مصرية مزيناً جاكت بدلته بوردة حمراء، ولا يتحدث إلا لغة سوقية كما في الأفلام الشعبية. ضاع المضمون والمنهج ومن قبل ضاعت العقيدة والقدوة الحسنة. من وسط هؤلاء انتشر التطرف والجهل. وأخيراً أنا أتعاطف مع عمرو خالد في أزمته الأخيرة. أحزنني حجم الشتائم وما فيها من سوقية تجاه رجل مفترض أنه داعية. هو إنسان ذكي مضى في طريق صنع له. مرة طلب منه أن يكون داعية، ومرة أخرى كان المطلوب تقديم فقرة إعلانية مدفوعة الأجر بشرط أن ينطلق من أرضية إسلامية. أنا أوجه دعوتي لصناع عمرو خالد، وأقول لهم: كفى، التحديات الموجودة على الساحة الآن مطلوب لها فكر ومنهج مختلف. مطلوب لها دعاة حقيقيون.
- كاتب مصري