ياسين عدنان
شاعر وإعلامي مغربي. من مجموعاته الشعرية: «مانيكان» و«رصيف القيامة» و«لا أكاد أرى» و«دفتر العابر».
TT

لم أشفَ من تأثير «رسالة الغفران» حتى الآن

حينما سللتُ من مكتبة والدي ذات عطلة صيفية وأنا تلميذ في المدرسة الإعدادية «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري وجدتني أتحول إلى رهينة بين دفتي هذا الكتاب. وجدتني هكذا كالمُسرنم أتبع أبا العلاء، هذا البصير الذي يُعلّم عميان البصيرة فن الرؤيا، أركب وراء صاحبه ابن القارح دابّة من دواب الجنة وأتذوق معه حلاوة العيش بها وأدهش من أحوال أهلها، خصوصا بعدما غُسلت صدور خصوم الأدب من ساكنيها من الحقد والضغينة بعضهم على بعض، فصاروا يتصافون ويتوافون كأن لم تكن بينهم معارك وحروب في الدار الفانية.
قبل أن أعرج مع ابن القارح على الجحيم فنطّلع إلى أهل النار وننظر إلى ما هم فيه. كانت رحلة عجيبة تأخذ بالألباب، وكنت غضّا طري العود، أمنّي النفس بحرفة الأدب وأخشى ألا تدركني فأحزن، وأحب أن أُحشَر مع أهل القلم في الدنيا قبل الآخرة. ومع أبي العلاء - أو ابن القارح بطل رحلته العجائبية - ومنذ بداية الجولة انتبهتُ إلى قوة الشعر وسلطة القصيدة وأنا ألمح الأعشى، ذلك الجاهلي السكير العربيد الذي كان أول من سأل بالشعر واحترف التكسُّب. فماذا يفعل هذا الصعلوك في جنة الغفران؟ كان الرد حاسما. لقد أدخلته الجنة أبيات شعر قالها في مدح الرسول الكريم قبل أن تصدّه قريش عن لقائه بعدما نبّهوه إلى أن الدين الجديد يحرّم الخمر:
ألا أيّهذا السائلي أين يمّمَتْ
فإنّ لها في أهل يثربَ موعدا
فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ
ولا من حَفى، حتى تُلاقي محمدا
أجِدَّكَ لم تسمعْ وَصاةَ محمّدٍ
نبي الإله حين أوصى وأشهَدا
نبي يرى ما لا يرونَ، وذِكرُهُ
أغارَ لعَمري في البلاد وأنجدا
كان الشعر حاسما في تحديد مصير الأعشى. ثم واصل ابن القارح طرح سؤاله العميق: «بِمَ غُفِر لك؟» على زهير وابن الأبرص وغيرهما. ودائما كان هناك بيت مُضيء من الشعر به حازوا الشفاعة وضمنوا مكانهم في الجنان. بدأت أستشعر بالتدريج كم هو الشعر جدي ومصيري. وكنت كالمأخوذ وأنا أتنقل بين الجنة والنار في «رسالة الغفران»، أتحيّن العطل المدرسية لأعود إلى هذا الكتاب الذي زلزلني ومارس علي تأثيرا لم أشفَ منه حتى الآن.
ذاك أنني وجدتُ نفسي بعد مرور سنوات طويلة على زمن الطفولة الذي كنت شغوفا خلاله برسالة المعري، أحفر في نفس المجرى الذي اجترحه أبو العلاء في رسالته. فقد كتبت نصا شعريا طويلا مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) التي تابعتُها مشدوها مثل الكثيرين مباشرة على الشاشة. شهدت انهيار البرج الثاني على الهواء مباشرة، وشاهدت الهلع على الوجوه والركض اليائس المجنون وقلت في نفسي: كأني بهؤلاء يتصوّرون أنفسهم في قيامة. وكأني وأنا أتابع ما يحصل مباشرة على التلفاز كمن يتابع النقل المباشر لـ«قيامة». ثم أليست كل حالات الموت الجماعي قيامات مُصَغَّرة بمعنى من المعاني؟
هكذا كتبت قصيدتي «رصيف القيامة» وأصدرتها إلى جانب قصائد قريبة من أجوائها مثل «زهرة عبّاد اليأس» و«الطريق إلى عام ألفين» في ديواني «رصيف القيامة» الذي صدرت طبعته الأولى في دمشق عن دار «المدى» سنة 2003. فهل كنت لأتفاعل مع زمني بكتابة «رصيف القيامة» لو لم يطّلع الطفل الذي كنتُه مبكّرًا على «رسالة الغفران»؟

* شاعر وإعلامي مغربي. من مجموعاته الشعرية: «مانيكان» و«رصيف القيامة» و«لا أكاد أرى» و«دفتر العابر».