حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لا بديل أمام حكام طهران إلا الرضوخ

...ودار الزمان دورته؛ الوزير مايك بومبيو ومعه الفريق الجديد في الإدارة الأميركية يمسح كل «إنجازات» الرئيس السابق باراك أوباما، ويطوي صفحة الاتفاق النووي بعدما أعلن الرئيس ترمب انسحاب أميركا من هذا الاتفاق، الذي شكل مظلة لملالي طهران لزعزعة استقرار دول المنطقة، واقتلاع أهلها، وتخريب عمرانها، والتبجح بمد سيطرتهم من طهران إلى المتوسط! والكشف عن اعتزامهم رسم الخرائط والحدود الجديدة لبلداننا وفق طموحاتهم!!
ما تريده واشنطن يتلخص في: صفر تخصيب، وصفر إنتاج صواريخ باليستية، وصفر دعم لأذرع «الحرس الثوري» وكل ميليشيات الإرهاب من أفغانستان إلى غزة، واحترام سيادة العراق بنزع سلاح «الحشد» وإنهاء وجود جيش رديف، وانسحاب إيراني كامل من سوريا، أي ترك سوريا للسوريين وليس لمغامرات التوطين والتشييع بالاستفادة من القانون رقم «10»؛ الابتكار الصهيوني، للاستيلاء على البيوت والأملاك ومنع ملايين السوريين اللاجئين إلى الخارج والمهجرين في الداخل من العودة إلى ديارهم!!
المطالب الأميركية باتت معلنة، والبديل عقوبات مالية غير مسبوقة في التاريخ، والتوجه الأميركي شامل، فالخطاب موجه إلى الحلفاء في أوروبا، وإلى الأصدقاء في الشرق الأوسط، وإلى كل العالم، وإلى الشعب الإيراني أيضاً، والأهم هو الإشارة إلى إجراءات تنفيذية ضمن استراتيجية مواجهة شاملة غير مرتبطة بوقت محدد للتنفيذ، بحيث لن تكون معها طهران مطلقة اليد لتثبيت هيمنتها على بلدان الشرق الأوسط، بعدما أنفقت الثروات لإراقة الدماء في المنطقة العربية... استراتيجية تتضمن ملاحقة عملاء إيران في كل أنحاء العالم، وتعد بمواجهة حاسمة لمحاولات نقل الأسلحة الإيرانية إلى البلدان العربية، ومواجهة أيضاً لكل محاولات إيران للحصول على صواريخ متطورة لتطوير ترسانتها العدوانية... وحتى تكون الرسالة - الكمّاشة واضحة ومفهومة، عقّب الناطق باسم البنتاغون على الاستراتيجية المعلنة بأن «واشنطن ستتخذ كل الخطوات الضرورية لمواجهة النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة».
إنها مقدمات الحرب المرجح أن تضم تحالفاً أوسع من دول المنطقة المعنية بمواجهة الصلف الإيراني، وهي كما رأى أكثر من مسؤول في طهران استراتيجية أميركية تريد تغيير النظام الإيراني، والثابت أن واشنطن ضاقت ذرعاً بالأحاديث من قبل مسؤولين أوروبيين أو مسؤولين سابقين في إدارة الرئيس السابق أوباما عن إمكانية تغيير إيران سلوكها، فنظام الملالي المضطهد الأول للإيرانيين لا يجد له الاستقرار والأمان إلا في التوسع والهيمنة الخارجية، ولطالما ردد طغاة طهران أنهم في حروبهم على شعوب المنطقة ودولها يقاتلون دفاعاً عن ديكتاتوريتهم ليس إلا. ولأن المسألة بهذا الوضوح وعلى هذا القدر من الدقة، يمكن التأكيد أن منطقتنا دخلت مرحلة جديدة يتداخل فيها كثير من العوامل قبل بلوغ خواتيمها، وإن كان من المرجح أن المواجهة حتى إشعار آخر هي خارج الحدود الإيرانية، فإن النظام الإيراني الهش والضعيف سيرغم على التراجع لأنه أعجز من القدرة على التحكم بمجريات مواجهة مع الجبروت الأميركي.
بهذا السياق لن يستمر طويلاً البحث الأوروبي عن حلول وملحق اتفاق مع طهران، وعن تشريعات أوروبية من شأنها أن تصون مصالح اقتصادية مهمة لأوروبا، فكبرى الشركات الأوروبية أوقفت أعمالها وغادرت، وهي تشترط ثمناً لبقائها ضمانة أميركية بأنها ستكون بمنأى عن سيف العقوبات: نتحدث عن العملاق النفطي «توتال»، وعن «سيمنز»، و«إيرباص»... وغيرها عشرات الشركات العالمية التي لم تنتظر 180 يوماً لتسوية وإنهاء أوضاعها، هي ببساطة اختارت تكبد الخسارة، ولو كانت كبيرة، على الإفلاس الحتمي.
إنها بداية زمن الأفول لهذه الديكتاتورية التي أغرقت البلدان العربية بثقافة الموت والتخوين... زمن تأخر؛ لكنه يبشر بالجديد، مع وضع حكام طهران أمام الاستحقاق الكبير: إمّا الارتداع الذاتي؛ وهنا يمكن الاستفادة من الدرس الكوري الشمالي، وإما المضي في التحدي وتكبيد شعوب المنطقة مزيداً من الخسائر، وتدفيع الإيرانيين عموماً أثماناً لا طاقة لهم بتحملها.
اليوم يعرف ملالي طهران أن نظام حكمهم الذي شاخ منذ زمن في عزلة، وأياً كان الموقف من الشروط الأميركية رفضاً أو انصياعاً، فإنه، بعيداً عن الصخب الممانع، لن يتغير المصير المحتوم، فقبل إعلان الاستراتيجية الأميركية، كان إبلاغ الرئيس الروسي رئيس النظام السوري في اجتماع سوتشي، بضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا، وحتى لا يكون هناك أي لبس، أكد المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف أن الطلب يشمل الإيرانيين وميليشياتهم... وما مجاهرة موسكو برفض المنحى التوسعي الذي تمارسه طهران، والذي سيكون ضبطه مستقبلاً أكثر تعقيداً، إلاّ للتأكيد على قناعة روسية مفادها أن دور طهران في سوريا لم يعد ذا فائدة كما كان في السابق؛ الوضع تغير جوهرياً، تمّ دحر «داعش»، وأُنجزت مهمة تمزيق المعارضة السورية المسلحة وتهجيرها، ومع اقتراب مرحلة جني ثمار الغزو الروسي تغيرت الحسابات. والحق يقال إن الهوّة بين روسيا وإيران اتسعت منذ زمن، حيث ذهبت الأولى بعيداً في التنسيق مع إسرائيل، التي دأبت في الآونة الأخيرة على تنفيذ ما تعدها ضربات استباقية لتدمير القواعد الإيرانية على الأراضي السورية، فيما تغض القيادة الروسية في «حميميم» النظر عما يجري، وتمتنع عن توفير الحد الأدنى من الحماية أو حتى الإنذار للوجود الإيراني المكشوف أمام العربدة الإسرائيلية.
ويواصل الزمن دورته، ومعه يبدو أن محاولات تشكيل حكومة جديدة في بغداد أو في بيروت، بعد الانتخابات العامة في البلدين ومع الفارق الكبير في نتائج هذه الانتخابات بين العراق ولبنان، ستبقى محكومة بالمواجهة المفتوحة بين أميركا وإيران. ففي بغداد حيث تم الاحتفاء بنتائج الانتخابات بالهتاف: «إيران برا برا...»، نرى الناطق باسم السيد مقتدى الصدر وتحالف «سائرون» صلاح العبيدي يعلن أن «سيادة العراق ستكون المبدأ الأساسي الذي يواجه الحكومة الجديدة»، وفي بيروت إذا كان «حزب الله»، الذي فرض انتخابات بشروطه وعلى مقاسه، لا يخفي رغبته في قيام حكومة توفر له بوليصة تأمين بوجه الأحداث العاصفة، فهو سيدرك في الوقت المناسب استحالة خطف حالة حكومية تتعارض مع المصلحة الحقيقية للبنانيين والمنحى العام الجديد في المنطقة.