علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

فوات أم تفويت؟

إتماماً لكلامي عن ملحوظة الدكتور أحمد العيسى النقدية الثانية على وثيقة سياسة التعليم السعودي، أقول تعليقاً على قوله إن الوثيقة «لم تمنح أهمية كبرى لتطوير التعليم، وفق قواعد البحث العلمي ومناهج التفكير والاستقلال العقلي، والاستفادة من علوم العصر وتقنياته والاستفادة - كذلك - من تجارب لأمم والشعوب، والانفتاح الثقافي والفكري إلا النزر اليسير»: معدو الوثيقة من الإسلاميين الأصوليين العرب والهنود، وهؤلاء خطابهم منذ نشأته وفي زمن كتابة الوثيقة يستهدف صنع انقلاب في حياة المسلمين الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعقدية في القرن العشرين، وتحويلهم إلى مفاهيمهم المحدثة والجديدة في تلك الحيوات المشار إليها. وهذا ما فعلوه في الوثيقة في غاية التعليم وأهدافه العامة وفي أهداف مراحل التعليم: دور الحضانة ورياض الأطفال، المرحلة الثانوية، معاهد إعداد المعلمين، التعليم الفني، التعليم الجامعي.
وهؤلاء الذين أعدوا الوثيقة لم يكونوا راضين عن مسار التعليم السعودي في زمن كتابتهم للوثيقة، وكانوا بكتابتهم لها يريدون حرفه عن مساره. وتمكنوا من ذلك بشكل كامل، ابتداء من سنة 1980. وهم لا يؤمنون بأن ثمة قواعد للبحث العلمي ومناهج تفكير واحدة ومشتركة بين المسلمين والغربيين، وبين المسلمين وأمم وأصحاب ديانات أخرى، وبين المسلمين وغير المؤمنين بالدين، وبين الإسلاميين والعلمانيين. والاستدلال العقلي عندهم هو استدلال مقيَّد ومشروط بغائية دينية، مثلهم في هذا مثل اللاهوتيين المسيحيين. وهم ضد الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب الأخرى، وفي بنود الوثيقة ما عبر عن هذه الضدية. ولا يوجد في بنود الوثيقة نزر يسير من الانفتاح الثقافي والفكري. وهم في الوثيقة - على عكس ما قال - مع الاستفادة من علوم العصر (علومه المحضة وليس علومه الاجتماعية والإنسانية) ومع الاستفادة من تقنياته وجوانب تطوره المادي. وهو لا يجهل هذه الناحية عند الإسلاميين ولا ما جاء في صددها بالوثيقة، وإنما قال بها انسياقاً مع استرسال في الإنشاء.
إن الوثيقة عبارة عن كراس إسلامي أصولي، جُمِعت ونُسِّقت فيها مقولات الإسلاميين الأصوليين العرب والهنود في الدين والسياسة والثقافة والاجتماع والفكر والتربية والتعليم والآيديولوجيا. وهي تعبير عما وصل إليه الفكر الإسلامي الأصولي في سعيه الحثيث نحو بناء آيديولوجية كاملة ومتكاملة في الفترة التي كُتِبت فيها الوثيقة.
بعد هذا التوضيح، أسأل: كيف يُنتظر من هؤلاء «منح أهمية كبرى لتطوير التعليم»، وهم يريدون حرفه والانقلاب عليه وتوجيهه وجهة مخالفة لما كان عليه؟!
كما أن تطوير التعليم في الفترة التي كُتِبَت فيها الوثيقة، لم يكن قضية مطروحة على التعليم السعودي، لأنه لا يزال تعليماً غضّاً حديث النشأة، وكان يسير سيراً حسناً، محتذياً طرائق التعليم المصري ومستفيداً منها. فالمشكلة لم تكن فيه، وإنما في الوثيقة التي قال عنها الدكتور أحمد العيسى - مطرياً - إنها أشارت إلى غايات جيدة في معظمها. فهذه الوثيقة استهدفت تغييره والانقلاب عليه.
تتناقض ملحوظته النقدية الثالثة - إن كنتم تذكرون - مع زعمه أن السعودية استخدمت شعار التضامن الإسلامي خارجياً وليس داخلياً.
فلو كانت السعودية فعلت ذلك، لما قال منتقداً معدي الوثيقة، إنهم «أقحموا» التعليم في قضايا سياسية كلية، وإن السياسة الخارجية السعودية هي التي يُفترض أن تكون وحدها مسؤولة عن التضامن الإسلامي.
يحدد الدكتور أحمد العيسى الفئة المتأثرة بالفكر القومي وشعاراته - ومن بينها شعار الوحدة العربية - بفئة الشباب. وساحة التعليم (كما هو معلوم) أفضل مكان لصياغة وجدان الشباب، وصنع عقولهم. وبما أن الأمر هو على هذا النحو، فليس إذن ثمة «إقحام» للتعليم في قضايا سياسية كلية، كما قال في انتقاده.
إن مصر عبد الناصر كانت تلقّن طلبة المدارس الإيمان بالفكر القومي العربي وشعار الوحدة العربية. فالدولة إذن ما كانت دولة تدخلية، كمصر والسعودية على سبيل المثال في هذا السياق، فإنه من حقها أن تدعو شبابها عبر التعليم إلى الإيمان بآيديولوجيتها وشعاراتها، ولا تثريب عليها في ذلك. ولا يُعد هذا موضع نقد لها، لأن هذا الأمر متساوق مع نوع السلطة فيها، بل هو من مقتضيات الدولة التدخلية.
أشار الدكتور أحمد العيسى في مقدمة قراءته للوثيقة إلى أنها صدرت في ظل ظروف سياسية داخلية وخارجية، وذكر منها «المد القومي الناصري في عنفوانه وزخمه» و«الأفكار الشيوعية التي كانت تكتسب أهمية لدى الشباب».
أي أن الخطر الذي كانت تواجهه السعودية - كما في شرحه لملابسات صدور الوثيقة - ذو شقين: شق داخلي وشق خارجي. والشق الداخلي يتمثل (بحسب شرحه) في انجراف فئة من الشباب السعودي مع المد القومي الناصري وانقياد فئة أخرى منهم للأفكار الشيوعية.
ومع إشارته هذه وتحديده للفئة العمرية التي هي موضوع الخطر الناصري والخطر الشيوعي، فإنه يريد أن يحيّد التعليم، ويقصر القيام بمهمة الدعوة إلى التضامن الإسلامي على السياسة السعودية الخارجية!
مجادلتي هذه هي مجادلة على المستوى النظري، أما من الناحية العملية، أو كما هو وارد في بنود الوثيقة، فقد يفجأ القارئ حين أعلمه أن شعار التضامن الإسلامي ذكر في بند يتيم ضمن الأهداف العامة في الوثيقة. وأنه في إعادة الحديث بما يعبر عن مضمونه في بند من بنود أهداف مرحلة التعليم الابتدائي، أردف كلمتي التعاون والتضامن بين أبناء الأمة العربية والإسلامية بكلمة الاتحاد!
وهناك فرق في اللغة والسياسة والآيديولوجيا بين التضامن والتعاون، والاتحاد والوحدة.
تلك الإشارة اليتيمة أعزوها إلى أن معدي الوثيقة الذين هم (كما كررنا مراراً) من إسلاميي العرب والهند، تظاهروا بالإيمان بشعار التضامن الإسلامي مع أنهم كانوا يؤمنون بشعار هو أكبر وأبعد منه، ألا وهو شعار الوحدة الإسلامية.
فهم يؤمنون بدولة إسلامية واحدة كبرى، تكون مركزية السلطة فيها في إحدى الدول العربية الإسلامية. بحيث تكون الدولة دولة خلافة إسلامية، أو لنقل إمبراطورية دينية. في حين أن شعار التضامن الإسلامي يتضمن إقراراً بشرعية الأنظمة السياسية العربية والإسلامية القائمة. ولا يعتبرها كيانات سياسية مؤقتة أو يجب أن تزول، كما في شعار الوحدة الإسلامية. تظاهروا بذلك ليتمكنوا من تثبيت مشروعهم الآيديولوجي بقضه وقضيضه في سياسة التعليم السعودي حين سنحت الفرصة لهم للقيام بذلك.
أي أن الدكتور أحمد العيسى بما يخص قضية الدعوة إلى التضامن الإسلامي في سياسة التعليم السعودي، صوّر الأمر على غير ما هو عليه حقيقة. وهذا فيه تتويه لقارئ كتابه. فالكثير ممن قرأوا كتابه أخذوا ملحوظته بالقبول، ولم يروا أنهم بحاجة إلى الرجوع إلى نص الوثيقة للتأكد من دقة ما قاله.
ولعلك (عزيزي القارئ) اكتشفت الآن معي أنه هو الذي يدعو إلى أن تكون الدعوة إلى التضامن الإسلامي شأناً خاصاً بالسياسة السعودية الخارجية بدعوى توزيع الاختصاصات، وليس أن الحكومة السعودية كانت تفعل ذلك في عقود سلفت. وربما بدا لك معي أنه يخلط بين ما يراه وما يقترحه، وما هو حاصل وممارَس فعلاً!
أن تكون السعودية وطناً مؤقتاً وليس وطناً نهائياً، وأن وطن السعودي النهائي هو أمة الإسلام، هو ما فات الدكتور أحمد العيسى أن يلحظه وأن ينتقده، أو هو ربّما فوّته بوعي أو - على مذهب السيكولوجيين - بلا وعي، وفاءً بواجبات قوم يجمعه بهم رحم آيديولوجي، رغم أن معدي الوثيقة سعوا إلى تكريس ذلك الفهم في العديد من بنودها، وكان واضحاً وضوح الشمس، يلمحه الكليل لولا أن - كما في عنوان آسر لحازم صاغية - «الهوى دون أهله».
السعودية في وثيقة سياسة التعليم هي للطالب في المرحلة الابتدائية وطنه المحلي، وللطالب في المرحلة المتوسطة وفي المرحلة الثانوية وللطالب في التعليم الفني وللطالب في معهد إعداد المعلمين هي وطنه الخاص. وهذا الوطن بهذه الصيغة لا يذكر إلا ويُلحم مباشرة - بحسب تعبيرات معدي الوثيقة - بالوطن والعالم الإسلامي وبأمة الإسلام والأمة الإسلامية. والمواطن ليس ثمة تعريف به ولا بالمواطنة سوى تعريف ديني هلامي، وهو أنه يجب «تنشئة المواطن الصالح لكي يعيش في مجتمع إسلامي ملتزم بآداب الإسلام وتعاليمه وقيمه».
ومواطن كهذا ليس مواطناً محدداً في إطار دولة ومجتمع بعينهما، فهو وفق هذا التعريف لا يحده حتى العالم الإسلامي، إذ إنه مواطن عابر للأقاليم والقارات. فكما هو معلوم فإن ثمة مجتمعات وتجمعات إسلامية في أوروبا وفي الأميركتين وفي الشرق الأدنى. وحصوله على شهادة المواطنة الإسلامية الصالحة أو لقب «المواطن الصالح» لا يقتضي منه سوى أن يكون مسلماً امتثالياً ويعيش في تلك المجتمعات والتجمعات الإسلامية ويحرص على أن يندمج في مجتمعات تلك الأقاليم والقارات الأصلية.
وكما أن السعودية في الوثيقة مرة واحدة هي وطن محلي، ومرات عديدة هي وطن خاص، فالمجتمع السعودي - أيضاً - عُرّي من هذا الاسم، ولم يُذكر سوى مرة واحدة وبغير اسمه. فالمجتمع السعودي أصبح اسمه مجتمع الطالب الخاص، مجتمعه الخاص الذي ينفذ منه مباشرة إلى مجتمعه الحقيقي والكبير والنهائي، مجتمع أمة الإسلام. وللحديث بقية.