تكشف جولة في عفرين، شمال سوريا، آثار رصاص على الجدران وكأن المدينة لم تجر فيها حرب وقصف عنيف. بعض الجدران المهدمة أيضاً تمت إزالة أنقاضها، ذلك أن أهالي المدينة يقولون إن «وحدات حماية الشعب» الكردية انسحبت من المدينة قبل وصول «الجيش السوري الحر» والجيش التركي إلى المدينة، وذلك خلال العملية التي انطلقت في 20 من يناير (كانون الثاني) الماضي، وانتهت برفع العلم التركي بجانب علم «الجيش الحر» فوق المدينة، ضمن عملية «غصن الزيتون» التي أعلنتها أنقرة.
الحركة عادت إلى المدينة والأسواق فتحت على الرغم من قلة الحركة، لكنها تشير إلى وجود مَنْ رفض المغادرة وهناك أيضاً من عاد. ولا يمكن إغفال بعض الانتهاكات التي قامت بها عناصر «الجيش السوري الحر» من عمليات سرقة.
أبو شيراز مواطن كردي سبعيني يقطن في عفرين منذ ولادته وأبى مغادرتها، طالب غيره ممن غادر المدينة بالعودة إليها، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن كل شيء عاد إلى المدينة من خدمات، واقترح العودة على من غادر. ومع عودة الأسواق تدريجياً إلى العمل، عادت كذلك الأفران وقد بدأت بإنتاج الخبز.
تقول أم يشار، وهي عائدة من مركز التوزيع إلى منزلها تحمل ربطتي خبز، إن الأسواق عادت للعمل، لكن الأسعار غالية الثمن: «حصلنا على معونة لكننا نتمنى أن يكون الوضع أكثر أمناً. خصوصاً في الليل». وتضيف وهي تتكلم العربية، بلسان ثقيل، «أنها تتمنى من بقية الأهالي العودة وعدم الخوف».
يقف عشرات النساء والأطفال والشيوخ في طابور أمام مركز توزيع الخبز في أحد أحياء المدينة، ما يشير إلى أن نسبة الفارين الأكبر من الشباب والرجال خوفاً من الاعتقال أو الانتساب إلى «وحدات الحماية».
معاناة العائدين لا تقتصر على سيرهم مسافات طويلة تحت الشمس الحارقة، ووعورة الطريق من جبال ووديان. وهي تهون أمام معظمهم تجاه معاناتهم لمعرفة مصير منازلهم وأرزاقهم. وتقول السيدة السبعينية: «تمتلك عفرين أراضي زراعية خصبة تنتج محاصيل وافرة من الزيتون والرمان العفريني المشهور على مستوى سوريا والتفاح والكرز، إضافة إلى القمح والخضار وغير ذلك من محاصيل تؤمن السلة الغذائية للعفرينيين، إضافة إلى كونها مورد رزق لهم عبر تصدير منتوجاتهم الغنية إلى باقي المحافظات السورية».
على طرف شارع آخر، تقف سيارة تحمل براميل معبئة بالوقود اتخذت من زاوية الشارع مقراً لها، بالقرب منها تقف دورية من عناصر «الجيش الحر». ويضع صاحب سيارة الوقود قائمة بأسعار البنزين والمازوت. ويوضح أن المحروقات جاءت من طريق إعزاز إلى عفرين. ويضيف بائع المحروقات قاسم أن الحركة خفيفة في السوق، لأن المدينة شبه خالية من السكان، وهناك عائلات كثيرة ما زالت نازحة في منطقتي تل رفعت ومحيط نبل والزهراء شمال حلب، ونصحهم بالعودة «لأن (الجيش السوري الحر) لم يعاملهم بسوء، وقام بمعاقبة من سرق محتويات المنازل».
وتابع قاسم أن «الجيش الحر» قام بتفتيش كل منازل المدينة، وبعضها كانت فيه ألغام انفجر أحدها بهم، وقام بتفتيش المنازل بعد عودة بعض المواطنين إليها، إلا أنه لم يعتقل أو يضايق أحداً.
بعض المطاعم فتحت أيضاً، لكنها عددها قليل، وتختص بالدجاج المشوي فقط وبعض المأكولات كالحمص والفلافل والفول، ويبدو الإقبال عليها جيداً نسبياً، وفق ما أكده صاحب مطعم، مشيراً إلى أن الحياة بدأت بالعودة، «الزبائن ليسوا كثراً، كما في السابق، ولكنّ القليل من العائلات عادت إلى المدينة». ويضيف أن معظم المدنيين نزحوا خوفاً من القصف، ولم يتجرأوا على العودة و«من ذهب إلى القامشلي والحسكة هم عائلات (وحدات حماية الشعب)، أما البقية فهم مواطنون لا ذنب لهم، بقوا خائفين في مناطق ومراكز إيواء بالقرب من نبل والزهراء، والنظام لم يسمح لهم بالدخول إلى حلب».
الخضار والفواكه والمواد الغذائية معظمها جاء من منطقة إعزاز، بحسب قيادي في «الجيش الحر». ويضيف أنه قبل دخول سيارات التجار إلى عفرين تم توزيع عدة دفعات من المواد الغذائية على القرى والمدينة في منطقة عفرين من قبل المنظمات العاملة هناك. ويقول إن «المدينة مثلها مثل أي مدينة أخرى في سوريا تعرضت لحرب وقتال، وتحتاج لوقت كي تعود إليها الحياة»، لكنه توقع سرعة حدوث ذلك في عفرين بسبب عدم تعرضها للدمار، وإن كانت الألغام أحد عوائق تحرك المدنيين وعناصر «الجيش الحر».
وتقول الشابة جيهان إن الدفاع المدني السوري دخل إلى مدينة عفرين، وبدأ نشاطاته فيها من جديد بعد أربعة أعوام من إغلاق «وحدات حماية الشعب» لمركزه في المدينة، وبدأ بعملية تنظيف الشوارع في المدينة وفي القرى القريبة منها، فضلاً عن القيام بمهامه الأخرى. وتوضح: «دخلت فرق الدفاع المدني إلى مدينة عفرين مصطحبة عدداً من الآليات الخاصة بالتجريف والحفر ورافعات لصيانة المناطق المرتفعة، وبدأت العمل على إعادة تفعيل المراكز القديمة التي أغلقتها (وحدات حماية الشعب)، وفتح أخرى جديدة حتى يصل العدد إلى أربعة مراكز بهدف تغطية أكبر مساحة ممكنة من المدينة ومحيطها». وقال آخر إن «(الدفاع) جاهز للعمل من أجل السوريين على مختلف أشكالهم وألوانهم، وفي أي منطقة كانت، ولو أن (وحدات حماية الشعب) لم تغلق مراكزهم في السابق لما تركوا عفرين، فهي جزء من سوريا وشعبها وأهلها سوريون».
في المقابل، ذكر الناشط الكردي آزاد المقرب من «الجيش الحر» أن «حواجز (الوحدات الكردية) بالقرب من بلدتي نبل والزهراء منعت الأهالي من العودة إلى عفرين». ويضيف أن «الوحدات» نصبت حواجز عند قرية تنب في ريف حلب الشمالي لمنع أهالي عفرين من العودة لمنازلهم، كما أن عناصرها يتهمون كلَّ من يريد العودة إلى عفرين بالعمالة والخيانة.
أما «المجلس المحلي» الذي تشكل مؤخراً في مدينة عفرين من قبل نشطاء أكراد، فدعا، في بيان أصدره، إلى ضرورة عودة الأهالي إلى مدنهم وقراهم. وبحسب البيان الصادر عن المجلس المتمخض عن مؤتمر «إنقاذ عفرين» في تركيا، فإنه «منذ لحظة انتخابنا في مؤتمر (إنقاذ عفرين) اعتبرنا أن شرعيتنا كمجلس أنتم تضفونها علينا، وموافقة العمل أنتم توفرونها لنا، ونحن بعدها نتابع إجراءات إدارية من الحكومة التركية أو الحكومة المؤقتة أو الائتلاف المعارض».
وأكد البيان أن اللجان التي تشكلت في إطار المجلس المدعوم من تركيا، باشرت عملها، وأن أولى الأولويات هي عودة الأهالي إلى بيوتهم في قراهم وبلداتهم، وإلى عفرين، لأن «التغيير الديمغرافي إن كان قد خطط له، فإنه سيحبط بعودتكم، ونكون كمجتمع عفرين كرداً وعرباً في الجانب الآمن لذلك».
بدورها، تقول الطبيبة ريهام إن «عفرين تعيش أياماً كارثية. ومنذ ما يقارب الشهر ونحن نعمل جميعاً دون كلل أو ملل، وكل غايتنا هو إنقاذ شعبنا في عفرين وقراها من هذه الكارثة بأقل الخسائر الممكنة».
المهندس خليل يروي لـ«الشرق الأوسط» أن «موارد كثيرة تتميز بها منطقة عفرين. فهي على الجانب السياحي تعتبر من أهم المناطق السياحية في ريف حلب نتيجة طبيعتها الجبلية والمناظر الطبيعية ما جعلها مقصداً لسكان الشمال السوري قبل عام 2011، وبالتحديد سكان حلب وإدلب، إضافة إلى وجود المعالم الأثرية فيها التي كانت مقصد المهتمين من داخل سوريا وخارجها».
وهناك عشرات المواقع الأثرية في المنطقة، منها قلعة سمعان الواقعة جنوب مدينة عفرين على بعد 20 كيلومتراً في القسم الجنوبي الشرقي، وتضم موقع مار سمعان، إضافة إلى مناطق جبل شيخ بركات وجبل بارسه خاتون (برصايا) ومدينة عين دارا الأثرية الواقعة جنوب عفرين، وتتكون من آثار ومعبد يضم تماثيل مختلفة. هذه الآثار جعلت المنطقة مقصداً للزوار والمجموعات البحثية الأجنبية، خصوصاً مع اقترانها بتنوع تضاريسها بين الجبال والسهول.
وإلى جانب ذلك تعتبر منطقة عفرين من المناطق المعروفة بجودة زراعتها، وهي المصدر الرئيسي لدخل معظم سكانها، إذ تحتل الزراعة المقام الأول لدى الأهالي، وتسهم في تكوين الناتج المحلي بنسبة 70 في المائة من إجمالي إيراداتها.
ويعتبر نهر عفرين مصدراً مهماً للمياه في المنطقة، ويبلغ طوله نحو 149 كيلومتراً، إضافة إلى وجود عدد من الجداول والينابيع. وتشتهر المنطقة بأشجار مثمرة، وتغطي شجر الزيتون معظم المساحات الزراعية، إذ تحتل هذه الزراعة المرتبة الأولى في المنطقة من حيث المساحة والإنتاج، وتحولها إلى مصدر رئيسي للأهالي. ويبلغ عدد أشجار الزيتون نحو 18 مليون شجرة، وتصل كمية إنتاج الزيت إلى 270 ألف طن في الأعوام المثمرة، ويحتل الزيتون العفريني مكانة مميزة في الأسواق المحلية والدول المجاورة. كما توجد في المنطقة 250 معصرة زيت زيتون ومعامل وورشات إنتاج صابون الغار ومعمل كونسروة ومعمل تعبئة مياه ونحو 20 مقلعاً للأحجار.
بدء عودة الحياة إلى عفرين... وبعض الشباب على جبهات القتال
«الشرق الأوسط» تجول في المدينة بعد سيطرة فصائل سورية تدعمها أنقرة
بدء عودة الحياة إلى عفرين... وبعض الشباب على جبهات القتال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة