الجديد هو أن نهج التخويف ذاته لم يعد يخيف. ليس خافياً على أحد أن قيادات أحزاب وحركات بأكثر من بلد عربي أدمنت أساليب تخويف كل مَنْ يخالف توجهاتها. السبب معروف كذلك، وخلاصته أنها زعامات تحتكر لأنفسها، دون غيرها، حق تحديد مقاييس الانتماء للأوطان، لكنها في الآن ذاته لا تجد أي حرج في رهن استقلال الوطن كله، بدل الاكتفاء بتجيير استقلالية قرارها، لأي طرف. تتباين أساليب التخويف، وتتعدد الوسائل، لكن الهدف واحد: غير مسموح للصوت الآخر بالوصول لشرائح أغلبية الناس. لا بأس أن يتنفس المعارضون داخل نطاق محدد، وسط نُخب المفكرين والمثقفين مثلاً، إنما توجيه الرأي العام يجب أن يظل أسير «زعماء المقاومين» وحدهم، كأنما ليس من كاشف للضرّ عن الخَلق سوى خطبهم وزعيق من يواليهم. ترى أي تخلف يعكسه استمرار وهم أن بالوسع ممارسة التخويف حتى لو تطلب الأمر الاجتراء على الحقائق؟
في سياق كهذا، قد يفيد التذكير ببعض ما سبق من ممارسات أصحاب نهج تخويف مخالفيهم في ساحات صحافة العرب وإعلامهم. منذ أربع سنوات (8 / 5 / 2014)، نشرت «الشرق الأوسط» مقالة كتبتها تحت العنوان التالي: «سؤال على هامش منتدى إسطنبول: مَن يحاكم مَن؟». كان موضوع ذلك المنتدى الإعلامي، بالطبع، فلسطين، والمحاكمة، بالطبع أيضاً، موضوعها مَن مع صمود القضية ومَن يريد تصفيتها؟ نجوم إعلام الصمود المقاوم من مرابع لندن وباريس، وغيرهما من عواصم ليست تعرف الجوع ولا الحصار ولا انقطاع الماء والكهرباء، قرروا أنهم أنصار فلسطين وحدهم، فأصدروا أحكامهم ممجدين أنفسهم ومُدينين غيرهم. كتبت تلك المقالة بعدما بلغني، عبر الإيميل، من شخص سوداني يعمل مع شخصية بارزة بين قادة أحزاب السودان، أنه اقترح دعوتي للمشاركة في ذلك المنتدى، لكن القائمين عليه، رغم تقديرهم، يعدونني مع الموالين لإسرائيل، والمناهضين لأحزاب وحركات المقاومة. هكذا، كأن كل كلام هيّن، ويبدو أنه كذلك عند أولئك القوم.
تذكرت «أحكام إدانة» منتدى إسطنبول، المنعقد في ضيافة الرئيس إردوغان، الحريص على تنمية العلاقة مع إسرائيل، إذ بلغني الجدل الذي اشتعل في لبنان الأسبوع الماضي بفعل نشر صحيفة، معروف للجميع ولاؤها السياسي، قائمة ما سمته «شيعة السفارة». للمرة الألف، وربما أكثر، يتضح أن محتكري باطل إصدار صكوك احتكار الوطنية لأنفسهم، وأحكام نقيضها بحق غيرهم، لا يريدون التعلّم، ولن يكفوا عن أساليبهم هذه، حتى لو أبانت عن جهل واضح، مثلما اتضح في تضمين القائمة اسم هدى الحسيني، الكاتبة الصحافية في «الشرق الأوسط»، الواضح حضورها الصحافي على امتداد العالم العربي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، والمعروف لكل متابع أنها ليست شيعية، وهي مقيمة خارج لبنان منذ أواخر السبعينات، لكن مجرد اجتهادها في تحري وتدقيق المعلومة الجديدة فيما تكتب عن الشأن الإيراني لم، ولن، يروق لمن يعمل وفق أجندة طهران.
تدخل فلسطيني في شأن لبناني؟ كأنما أسمع من يحتج معترضاً. ربما، لذا أختم بما جرى منذ سنين طويلة في المربع الفلسطيني نفسه، وفي الشأن ذاته. كنت أحد أعضاء وفد فرع الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في ليبيا إلى مؤتمر طارئ في الجزائر (1974 - 1975؛ رغم البحث لم يتوفر لي تاريخ الانعقاد)، جرى ترتيب عقده على عجل بأمر من ياسر عرفات، ولهدف محدد هو عزل الكاتب السياسي ناجي علوش من الأمانة العامة للاتحاد. ولتحقيق ذلك، جرى تنسيب أعداد هائلة لعضوية الاتحاد من خارج فضاءات الإعلام والأدب، بغرض حشد أغلبية ضد علوش. اعترض على تدخل سلطوي كهذا كثيرون. ولما حمي الجدل، زعق مسؤول فلسطيني، كان يومها أحد المقربين من القيادة الفلسطينية، ولا يزال، بما مضمونه أن الأعضاء المعارضين إنما يمثلون الدول التي أتوا منها، وأشار تحديداً إلى وفد فرع ليبيا، فرد أعضاء الوفد بغضب على ادعاء باطل جردهم من فلسطينيتهم لمجرد رفضهم أن يُملى عليهم ما لم يقبلوا.
القصة قديمة، كما ترون. وواضح أن نشر قائمة «شيعة السفارة» في بيروت قُصد منه القول إن اللبناني المستقل الإرادة يجب ألا تقوم له قائمة، بل ممنوع عليه أن يكون لبنانياً، وكذلك الحال مع الفلسطيني، ولذا لا بد من استمرار التخويف، لكن ما هو شديد الوضوح أيضاً أن ذلك كله لم يعد يخيف.
15:2 دقيقه
TT
تخويف مستمر... ما الجديد؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة