داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

شقائق النعمان بين الكوريتين

دعنا نعيد عقارب الساعة إلى الوراء ونتساءل: هل كان ممكناً تفادي الحرب الشرسة الطويلة لو اتفقت إيران والعراق قبل اندلاع الحرب بينهما في سبتمبر (أيلول) 1980 على عقد لقاء رئاسي بين الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والرئيس الإيراني الراحل أبو الحسن بن صدر في قرية «خسروي» المجاورة لمدينة «قصر شيرين» الإيرانية أو قرية «المنذرية» المجاورة لمدينة خانقين العراقية، وهما مدينتان حدوديتان بين البلدين؟ الآن نقول: لأن اللقاء لم يُعقد خسر الطرفان الحرب ولم يربحا السلام.
قبل ذلك في عام 1975 طار شاه إيران محمد رضا بهلوي من طهران، وصدام حسين من بغداد، إلى الجزائر لعقد اجتماع بينهما توصلا في نهايته إلى اتفاق لتفادي حرب محتملة بين إيران الملكية والعراق الجمهوري. ربح الطرفان السلام ولم يخسرا الحرب.
حين كنت طفلاً أعي ما حولي زرت مع المرحوم والدي قرية «خسروي»، وهي منفذ الحدود الإيراني المقابل لقرية «المنذرية» في الجانب العراقي. وكان الدخول مسموحاً في تلك السنوات البعيدة إلى هاتين القريتين للعراقيين والإيرانيين من دون جوازات سفر، كما أن التهريب التجاري بين البلدين كان شائعاً وتحت أنظار الشرطة لتنشيط العلاقات الاقتصادية كما يحدث في معظم المدن الحدودية في العالم. وزرتهما مرات أخرى خلال حرب الثمانينات بصفتي مراسلاً حربياً لجريدة «الجمهورية» البغدادية مثل كثير من الزملاء.
القريتان لا يزيد عدد الأبنية فيهما على بعض الأكواخ المبنية بالصخور تحيط بها مجموعة هضاب متفاوتة الارتفاع وتتزين في الربيع بورود شقائق النعمان الحمراء الرقيقة التي تذبل وتموت بمجرد قطفها. وهي ورود تنتشر في كل هضاب العراق وجباله الشرقية والشمالية حين تذوب ثلوج الشتاء. وترجع تسميتها إلى أشهر ملوك الحيرة في العراق وهو النعمان بن المنذر الذي عشق هذه الزهرة البرية وأمر بزراعتها حول قصره. وحين توفي نبتت الشقائق على قبره. وللشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي قصيدة مطلعها:
«لما رأيت الورد في خديك
وشقائق النعمان في شفتيك».

وللشاعر الفلسطيني محمود درويش قصيدة مطلعها:
«نزف الحبيب شقائق النعمان
أرض الإرجوان تلألأت بجروحه»
وإذا كان اسم هذه الزهرة البرية الساحرة يعود إلى النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي (582 - 609م) ملك الحيرة جنوب وسط العراق بين الكوفة وكربلاء والنجف، فإنها تنبت ربانياً في عرعر والجوف في المملكة العربية السعودية، وهضاب وسفوح سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبادية الشام. وحين تزهر هذه النبتة في شمال العراق فإنك لا تكاد ترى تراب الأرض من لونها القرمزي الناري الذي يحيل الهضاب والسفوح إلى لوحة فنية تنطق بجمال الطبيعة الإلهية. وفشل العلماء حتى الآن في زراعتها وتكثيرها وتزهيرها.
وكما قلت قبل سطور إن الوردة أخذت اسمها من النعمان بن المنذر، فإن قرية «المنذرية» الحدودية مع إيران أخذت اسمها أيضاً من الرجل نفسه، ولا علاقة لذلك بصدام حسين أو الحرب العراقية - الإيرانية، علما بأن النعمان سبق أن خاض حرباً مع إيران قبل الإسلام ودحرها. ولهذا النعمان حكاية مع عنترة بن شداد حين أراد أن يجمع مهر محبوبته عبلة وهو ألف من النوق لا توجد إلا في العراق. وهكذا تواصلت نجد في شبه الجزيرة العربية مع العراق بمهر عبلة الذي لم تحصل عليه إلا بعد قتال شرس بين عنترة والنعمان بن المنذر. وواضح أن أهل عبلة كانوا «داخلين على طمع»!
لو قرأ صدام حسين وخميني بعد رحيل الشاه تاريخ النعمان بن المنذر وقررا اللجوء بشجاعة القادة إلى همس الحوار، بدلاً من صليل السيوف وقعقعة السلاح، لضربا مثلاً تاريخياً في كيفية تحقيق السلام وتجنب الحرب. أما وقد حدث ما حدث وصار ما صار وجرى ما جرى، فإن الطرفين خسرا الحرب والسلام معاً بعد قرنين تقريباً من الحملات النابليونية على روسيا كما أرخها وكتبها الكاتب الروسي الفذ ليو تولستوي في روايته الخالدة «الحرب والسلام» التي يعتبرها النقّاد واحدة من أعظم الروايات التي خطّها كاتب على مدى التاريخ.
وقيمة هذه الرواية كما يقول الناقد اللبناني إبراهيم العريس إنها حاولت الإجابة عن سؤالين مصيريين: أولهما لماذا نعيش؟ وثانيهما لماذا لا نعيش؟ فالبشر يُقادون كالغنم إلى مسالخ الحروب تحت شعارات ولافتات تبدو متشابهة في جانبي خطوط النار! وتختلط فلسفة الحرب بين من يحمي من؟ هل يحمي المواطن وطنه؟ أم أن الوطن مسؤول عن حماية مواطنيه؟ كفة الموت راجحة في حماية المواطن لوطنه، لكن كفة الحياة هي الراجحة في حماية الوطن لمواطنيه.
هذه المعادلة ليست روسية قيصرية فقط، لكنها روسية شيوعية أيضاً وأميركية وعربية وإسلامية وأفريقية.
كل العالم يتحدث هذه الأيام عن قرية ليست على الخريطة اسمها «بانمونجوم» الحدودية بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية لبحث فرصة توقيع اتفاق سلام بينهما بعد 65 عاماً من اتفاقية هدنة أوقفت حرباً استمرت بين عامي 1950 و1953. عبر الرئيسان الكوري الشمالي كيم جونغ أون، والجنوبي مون جان إن، الخط الفاصل بين حدود البلدين وتصافحا، لكنهما رفضا أن يتناولا طعام الغداء معاً، فذهب كل منهما إلى استراحته وتناول طعامه مع مرافقيه، وهي حجة مقبولة لتدارس ظروف اللقاء ونقاط التركيز والخطوط العامة للحوار.
لا أعرف في الواقع إذا كانت في «بانمونجوم» شقائق النعمان.

- كاتب عراقي