خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

استخبارات المنصور

من الطرائف التي وردت في «التحفة البهية والطرفة الشهية» حكاية لها ظرافتها مثلما لها دلالتها. قال راوي الحكاية إن مخبراً (وكان لتلك الأيام استخباراتها أيضاً)، نقل إلى المنصور أن رجلاً كانت عنده ودائع وأموال وسلاح من تركة الأمويين. كان عليه أن يسلمها لبيت المال. فاستدعاه الخليفة وسأله عنها وطلب منه أن يعيدها ويسلمها كاملة إلى بيت المال. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أأنت وارث بني أمية؟ قال: لا. قال: فوصي أنت عليها؟ قال: لا. قال: فلم تسأل عن ذلك؟
فأطرق الخليفة أبو جعفر المنصور مفكراً في الأمر ثم التفت وقال للرجل: أعلم أن بني أمية هؤلاء قد ظلموا الناس وغصبوا أموال المسلمين. فأنا آخذها منهم وأردها إلى بيت مال المسلمين.
فقال الرجل: تحتاج يا أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم وتثبت أن المال الذي لبني أمية هو المال الذي في يدي، وأنه هو الذي اغتصبوه من الناس. وأمير المؤمنين يعلم إن كانت معهم أموال لأنفسهم غير أموال الناس التي اغتصبوها على ما يقول أمير المؤمنين.
تأمل أبو جعفر المنصور في الأمر. ففي العراق في تلك الأيام الخوالي كان الحكام يتأملون ويفكرون ملياً في الموضوع قبل البت في الأمر، بل وينصتون أيضاً لحجة من يناقضهم ويحاججهم فيه. وهذا ما جرى.
تأمل المنصور في الأمر ثم التفت إلى ربيع حاجبه وقال له: يا ربيع. لقد صدق هذا الرجل. ولم يجب لنا عليه شيء.
بعد أن قضى الخليفة لصالح ذلك الرجل على هذا الأمر، التفت إليه وعاد فسأله: ألك حاجة أخرى؟
قال: نعم. فسأله: وما هي؟
قال: أريد أن تجمع بيني وبين الرجل الذي سعى في إليك. فوالله يا أمير المؤمنين لم يكن لدي لبني أمية أموال ولا سلاح. وإنما لما حضرت بين يدي أمير المؤمنين ورأيت ما هو فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق وتجنب الباطل، وأن هذا لا يجوزه، أيقنت أن هذا الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما قد سألني عنه أمير المؤمنين وأقرب إلى الخلاص، فالتفت الخليفة إلى الحاجب وقال: يا ربيع اجمع بينه وبين ذلك الرجل الذي اتهمه كما قد ادعى وقال.
فلما جاءوا به وتواجه الخصمان، تبين أن الرجل كانت له في ذمة المخبر خمسمائة دينار قد هرب بها. فسعى إلى الإيقاع بدائنه للتخلص من مطالبته بهذه الوشاية.
ما أصدق ما قالوا «لا جديد تحت الشمس»، وعلى الخصوص، لا جديد تحت شمس وشايات عالم الشرق الأوسط، لا في تلك الأيام ولا في أيام عالمنا هذا.