فوزية سلامة
TT

رمضان كريم

«الغربة كُربة» كما يقولون، خصوصا في شهر رمضان المعظم إذا كان المغترب مقيما في دولة غير إسلامية. حين يبدأ شهر الصوم يشعر المغترب كأنه على كوكب آخر، لأن الطقوس المصاحبة للاستعداد لشهر الصوم تظل غائبة عن حياته اليومية.. تماما. هذا العام وفي الأعوام القليلة المقبلة يأتينا رمضان بعد انتهاء العام الدراسي، فيهرع كل مغترب له أولاد منتظمون في المدارس إلى وطنه التماسا لدفء الانتماء وهربا من العزلة النفسية التي يفرضها الوجود في بلد غريب. ولو توخيت الصدق لذكرت أيضا أن نهار الصوم في البلدان الأوروبية طويل طويل طويل، حيث لا تغرب الشمس قبل التاسعة مساء بينما تظهر خيوط الفجر قبيل الثالثة صباحا فيكون نهار الصوم قرابة 18 ساعة. وبالطبع لا تعترف دوائر العمل الأوروبية بأن الصائم يستحق يوم عمل أقصر من المعتاد رحمة به أو اعترافا بجدوى صومه.
على ضوء ما تقدم، حزمت أمتعتي وعدت إلى وطني الأم بحثا عن الدفء العائلي، فإذا بالحلم يتبخر على صخور الواقع الصيفي المشحون بحرارة فوق العادة وسحب كثيفة من غبار وأبخرة صناعية خيمت على سماء القاهرة، فلاذ من لاذ بالفرار إلى شاطئ البحر. اشتقت إلى رمضان الذي ألفت، حين كان بيت العائلة الكبير ينبض بطاقة الأم التي لا تكل ولا تمل من لملمة الشمل.. اشتقت لابتسامة الرضا التي كانت تعلو وجه أبي وهو يتصدر المائدة الرمضانية وينظر نحونا برضا وفخر.. واشتقت إلى طقوس حياتية مثل انتظار مدفع الإفطار والسكون الذي يسبق انطلاقته، واشتقت إلى المذياع وبرامجه الرمضانية التي التهمها الشره التلفزيوني المسعور.
يقول المثل «إنْ لم تستطع عض اليد فعليك بتقبيلها». ومن هنا اتخذت قرارا بالإسراع إلى شاطئ البحر هربا من الحرارة ورغبة في التواصل مع الإخوة وعائلاتهم. وفي صباح اليوم التالي لوصولي إلى المصيف لم يكن هناك بد من ترديد أغنية غنتها فاتن حمامة مع شادية في فيلم «موعد مع الحياة» فقالتا: «ألو ألو إحنا هنا».
بعد «أهلا وسهلا» و«الحمد لله على السلامة» ودردشة قصيرة مع أخي والسؤال عن الصحة والأحوال، والاطمئنان على أنه مرتاح وسعيد بوجود ابنته المتزوجة وطفلها وزوجها عنده، أخبرني أنه يستعد لاستقبال ولده المتزوج ومعه زوجته بعد أيام. قلت لنفسي: إنها بشرى ومنيت نفسي بنفحة رمضانية تردني إلى ذلك الصبا البعيد في ظل الوالدين واكتمال الأسرة. فطلبت أن أسلم على زوجة أخي لتهنئتها باقتراب شهر الصوم. أثناء الحديث ذكرت لها أنني لا أبعد عن مكان إقامتهم سوى 15 كيلومترا. وسألتها عن توفر السيارات، فقالت لي إن هناك ثلاث سيارات لا سيارة واحدة لخدمتهم نظرا لوجود الأولاد وأسرهم. وعلى استحياء سألت: هل تقضون أول أيام الصوم في المصيف؟ فأجابت بالإيجاب، وسألت: وأنت؟ فقلت لها إنني أيضا قررت البقاء هربا من حرارة الطقس في القاهرة. فعلقت على حرارة الطقس، ثم أسرعت قائلة: ولكننا سنراك حتما في القاهرة قبل سفرك إن شاء الله.
رغم تقدمي في العمر، فإنني جربت في تلك اللحظة لسعة اليتم، وتمنيت أن أضغط على زر سحري فأجد نفسي وقد عدت إلى مكان إقامتي الدائم حيث بيتي وحفنة من الأصدقاء الذين عقدوا مع الاغتراب هدنة طويلة الأجل. غير أن الزر الوحيد الذي كان متاحا في تلك اللحظة الحزينة كان زر تشغيل التلفزيون. علت الأصوات وتداخلت الصور الملونة وتتابعت الوجوه والتقارير عن مسلسلات بالجملة تتدافع وتتآمر على وجدان المشاهدين على مدى الساعات الأربع والعشرين.
ماذا تبقى من رمضان كما عرفته في صباي؟ أكاد أجزم بألا شيء تبقى سوى الذكرى.