لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

محاربو عصرنا الأسطوريون

عند انتقال أليكسس سانشيز من نادي آرسنال اللندني إلى نادي مانشستر يونايتد، لم يُثر الأجر الأسبوعي الذي بدأ يتقاضاه هذا اللاعب التشيلي البارع في مكان عمله الجديد استغراباً قوياً بين المعنيين بلعبة كرة القدم في إنجلترا أو في أوروبا. ولعل ذلك يعود إلى الارتفاع المتزايد لأجور لاعبي كرة القدم المحترفين في العديد من بلدان أوروبا بشكل أصبح معه أجر أسبوعي مثل 100 ألف دولار مجرد فتات، هذا بالطبع إذا تذكرنا أن معدل الأجر الأسبوعي للموظفين في بريطانيا لا يزيد على 600 دولار تقريبا.
بالتأكيد هذه الأجور التي ما كان يحلم أسلاف اللاعبين المعاصرين بجزء متواضع منها، تعود إلى تحولٍ ما جعل كرة القدم أكثر قدرة على جذب ملايين المتابعين لها في شتى أنحاء العالم، إذ بفضل الفضائيات التي تكاثرت كالفطريات خلال العقدين الأخيرين، أصبح بالإمكان متابعة مباراة كرة قدم في إسبانيا ما بين برشلونة وريال مدريد في أماكن قصية جداً كشنغهاي أو هونغ كونغ أو دلهي مباشرة، وكأنها تجري أمام المشاهدين، كذلك ساعد تطور تقنيات التصوير وتحسن عمل الكاميرات بشكل كبير، في إمكانية تصوير أي لعبة عبر نظام كومبيوتري يسمى «سكاي كام» (الكاميرا الفضائية) والكاميرا معلقة فوق الملعب وتتحرك عبر سلك غليظ بسرعة تصل إلى حوالي 30 ميلا في الساعة. وبفضل هذا النظام أصبح المشاهد يتابع معركة حقيقية بين جيشين، وأصبح بإمكانه الاستمتاع بمشاهدة الأشكال الهندسية التي يصنعها عشرة لاعبين من فريق ما وهم يتقدمون بالكرة لاختراق دفاعات الخصم أو بالعكس. كذلك فإن أولئك الفرسان المتميزين بصولاتهم وقدراتهم الخارقة يلعبون دوراً مهماً في تحقيق الانتصار بتمكنهم من دك مرمى الخصم بأهداف تحقق هزيمته.
ولعل اختفاء المحارب الذي كان يلعب دوراً حاسماً في المعارك الحقيقية، أحد أسباب ظهور أبطال كرة القدم كتعويض مجازي عن فرسان العالم القديم والقرون الوسطى. وكأن ظهور الأسلحة النارية وتطورها من بنادق ومسدسات إلى مدافع جعل دور البطل الفردي أكثر فأكثر هامشية، واليوم ومع تطور الكومبيوترات وأجهزة التشويش الإلكتروني وبروز العقل الاصطناعي والروبوتات في الحروب أصبح دور الفرد يكمن في قدرته على تسيير الأجهزة المتوافرة تحت يديه، فهو قد يستطيع إدارة المعركة من على بعد آلاف الأميال، ولن يحتاج إلى امتلاك شجاعة خارقة أو مهارة قتالية بارزة، فكل شيء أصبح تحت أصابع يديه بأزرار عليه أن يضغط عليها في اللحظة المناسبة.
لعل شخصية دونكيشوت التي ابتكرها الكاتب الإسباني سيرفانتس وصدرت عام 1606 كانت إيذاناً بانتهاء عصر الفروسية، وانتهاء دور المحارب القديم الذي كانت المدينة سابقاً تمنحه كل الامتيازات وأكثر ربما مما يُمنح لاعبو كرة القدم اليوم. فمع بدء عصر النهضة وبروز الأسلحة النارية وظهور التراكم التجاري أصبحت طبقة المحاربين المحترفين زائدة عن الحاجة، لذلك كان أمامها خيار واحد: التحول إلى ملاك أراض والقبول بتحول العبيد إلى فلاحين أحرار يعملون وفق إرادتهم. لذلك لم يكن أمام دونكيشوت المصر على البقاء منتمياً إلى طبقة المحاربين الفرسان القديمة إلا اختلاق عالم وهمي من الأشباح ليبدأ حربه ضدها، ولم يكن في حوزته أي عبد يساعده سوى شخصية مغفلة أخرى هي سانشو بانزا. وبهذه الطريقة تمكن الكاتب سيرفانتس من بناء عمل أدبي تهكمي يعتبر الرائد في تاريخ الرواية كجنس أدبي جديد.
غير أن كرة القدم أعادت الاعتبار لدونكيشوت بابتكارها البطل الفذ الذي يستطيع تغيير مسار المعركة لصالح فريقه حتى لو كان الخصوم أكثر تفوقاً، وهنا يصبح بالإمكان إيقاظ ما يمكن تسميته الذاكرة الجمعية التي تحن إلى ذلك المحارب الفذ الذي يقلب موازين القوى لصالح مدينته حتى حين تكون الكفة مائلة لصالح العدو. نحن ما زلنا نقرأ بانبهار إنجازات أولئك الأبطال الأسطوريين الذين كانوا مقاتلين أشداء وحكاماً لمدنهم في آن واحد. فهناك جلجامش ملك مدينة أوروك السومرية الذي قام برفقة صديقه (الشبيه بشخصية سانشو بانزا لكنه أكثر جدية ومأساوية) أنكيدو بإنجازات بطولية تشبه إلى حد ما إنجازات ميسي ورونالدو وبيليه ومارادونا.
كذلك هو الحال مع الأبطال الإغريق الذين خلدهم الشاعر الضرير هوميروس في ملحمته الإلياذة. ففيها نتابع الحكام والقادة العسكريين الأبطال مثل أوديسيوس وأغاممنون ملك إسبرطة، والبطل الشاب أخيل الذي كانت النبوءة تقول إنه سيُقتل في حرب يكون هو أيضاً سبب كسبها.
وفق كتاب «الجمهورية»، يرى الفيلسوف إفلاطون أن مدينته الفاضلة تضم ثلاث طبقات: الحكام والمحاربين وأصحاب الحرف الأخرى. ولا بدّ أن النموذج الذي أسسه في كتابه قائم على ما كان سائداً في مدينة إسبرطة، التي كانت تتبع نظاماً صارماً في تكوين المحاربين المحترفين، وما يميز نموذج إفلاطون عما كان سائداً في المدينة الإغريقية إسبرطة هو أن الحكام فيها كانوا دائماً من المحاربين، وهم عادة أشجعهم وأقواهم جسدياً وبراعة في إدارة الحروب وخوضها.
وهذا ما يجعل المحاربين الأكثر غنى وثراء، وهذا بفضل ما يكسبونه من ضرائب تجمع من أبناء بلدهم (الحرفيين) وما يكسبونه من أسلاب وسبايا وعبيد، فما كان يحركهم هو السعي الدائب للمجد والاستعداد للموت، فكأنهم وضعوا شعاراً واحداً: نحن على استعداد دائم للموت قتلاً مقابل حصولنا على أفضل الملذات وأطيب الأطعمة، وأجمل النساء وأحسن الأراضي، وأفضل القصور وأكثر الأموال. نحن في كل الأحوال لن نعيش طويلاً لكننا نعيش أفضل من أبناء مدينتنا الحرفيين.
واليوم، نجد أن لاعبي كرة القدم هم أيضا يعيشون فترة قصيرة، وبالطبع لا يموتون ميتة حقيقية بل اعتبارية، إذ إنهم يعتزلون اللعبة التي لا يجيدون شيئاً آخر في الحياة غيرها وهم في منتصف الثلاثينات في أحسن الأحوال.
لا بدً من الاعتراف بأن أي مباراة كرة قدم تشبه إلى حد ما إحدى المعارك القديمة في كونها غير قابلة للتكهن، فالجميع يستعملون نفس الأسلحة من سيف إلى درع إلى رمح إلى خيول، لكن ما يقرر النتيجة أكثر من عامل، من بينها الصبر والثقة بالنفس والحظ والأخطاء غير المتوقعة للخصم إضافة إلى دور الأبطال المتميزين.
كذلك لعبت كرة القدم دوراً مهماً في تحقيق السلم الأهلي بشكل خفي، إذ أصبح كل فريق يمثل الجيش المحارب لهذه المنطقة أو تلك، لهذه المدينة أو تلك، لهذه البلدة أو تلك. وأصبح اللاعبون يؤدون دور المحاربين القدامى الذائدين عن كرامة أنصارهم والساعين إلى تحقيق انتزاع اعتراف الخصوم بهم والتقاسم معهم ذلك الشعور بالمجد والتفوق عند تحقيق انتصار ما على الخصم.
وكم يُصدم أنصار هذا الفريق أو ذاك حين يقرر هذا اللاعب أو ذاك الانتقال إلى فريق خصم يجاورهم جغرافياً. وكم يتكرر وصف لاعب كهذا من قبل أنصار فريقه السابق بأنه يهوذا الذي خان السيد المسيح.
لكل هذه الأسباب وغيرها نجد أن الأجر الأسبوعي الذي حصل عليه اللاعب التشيلي أليكسس سانشيز من مانشستر يونايتد لم يثر أي جدل أو صدمة: نصف مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل ثلاثة أرباع مليون دولار تقريباً. وفي حساب بسيط يصل دخل هذا اللاعب السنوي إلى 40 مليون دولار سنوياً.
إنه لا شيء أمام إشباع حمية شعور المناصرين الجمعي بأنهم الأفضل والأقوى، وكأنهم بذلك يذوبون في كيان افتراضي لا مكان فيه سوى العاطفة الجياشة ومشاعر الانتصار الجياشة. ولعل الحروب تقوم لنفس الأسباب، بخسائر أكثر فداحة ومأساوية.