عندما يتعلق الأمر بروسيا هذه الأيام، فإن الولايات المتحدة وأوروبا لا تتوانيان عن الردع بكل ما أوتيتا من قوة. كان هذا ما دفع بإدارة الرئيس باراك أوباما إلى فرض عقوبات على روسيا بعد قيامها بغزو أوكرانيا، وهذا ما فسر أيضاً العقوبات التي فرضتها وزارة الخارجية الأميركية على الأقلية الروسية الشهر الحالي. فقد أرسلت وزارة الخزانة الأميركية برسالة مفادها بأن هذا هو جزاء من يتدخل في انتخاباتنا.. لا تفعلها ثانية.
جاءت عملية الردع الأميركي في مكانها، لكن يجب ألا يكون هذا هو الهدف الوحيد عند التفكير في أسلوب مواجهة روسيا.
فكما كتبت عام 2016. فإن مشاركة روسيا في المنظمات الدولية، صغيرة كانت أم كبيرة، غالبا ما يضعف من قدرات الكيان نفسه. هذا ما يمكنك ملاحظته في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة عندما وفر حق الفيتو الروسي الحماية للديكتاتور السوري بشار الأسد من تبعات استخدام الأسلحة النووية. تستطيع أيضاً ملاحظة ذلك في الشرطة الدولية «الإنتربول» حيث تحاول روسيا استصدار أوامر اعتقال بحق معارضيها السياسيين. فروسيا تبدو كالنمل الأبيض الذي يتمدد في جسد المنظمات الدولية المشاركة فيها.
ويوم الجمعة الماضي، نظرت «لجنة هلسنكي» الأميركية، وهي هيئة حكومية أميركية تراقب حقوق الإنسان في 57 دولة، في آخر ضحايا الفساد داخل روسيا وكذلك في أعمال «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا». وقد تشكلت اللجنة عام 2007 في محاولة لإنقاذ تلك الدولة الصغيرة القابعة وسط أميركا الجنوبية من براثن رجال العصابات.
واعتبرت بريتاني بينويتز، رئيسة مجلس حقوق الإنسان التابع لنقابة المحامين الأميركيين، أن تشكيل تلك اللجنة «جهد تاريخي من قبل المجتمع الدولي بغرض تحدي حكومة دأبت وبإصرار على ممارسة الجريمة المنظمة». ورغم أن «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا» لا تملك صلاحية محاكمة المسؤولين في غواتيمالا، فإنها توصي بمحاكمتهم، ولتوصيات تلك اللجنة وزن كبير. وقد نجحت اللجنة بالفعل في إسقاط رئيس سابق، ويعمل محققوها على جمع الأدلة ضد الرئيس الحالي.
ولهذا فقد كان من الغريب أن تستهدف «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا» رجل الأعمال الروسي إيغور بيتكوف وزوجته إيرينا وابنتهما أناتسيا، التي فرت من روسيا عام 2008 وانتهى بها المطاف في غواتيمالا بعد أن ابتاعوا جوازات سفر وبطاقات هوية مزورة.
قامت كاتبة الرأي بصحيفة «وول ستريت جورنال»، ماري أنتاسيا أوغرادي، بتوثيق حالتهم في عدد من المقالات. بدءاً من عام 2007. قام بنك «في تي بي» وغيره من المقرضين الروس بالضغط على بيتكوف لبيع مشروعات تجارة الأخشاب التي يمتلكها بسعر يقل كثيراً عن السعر الحقيقي. وطالبت تلك البنوك بسداد كامل قيمة قرض قبل موعده بعد أن كان رجل الأعمال قد سدد غالبيته بالفعل، وبعد ذلك طالبت البنوك ببيع الشركة. ولم تسلم أسرة بيتكوف من عمليات الإرهاب وتخويف خلال تلك الفترة. وفي عام 2007، اختطفت ابنتهم وتعرضت للاغتصاب، ودفعت الأسرة 200 ألف دولار فدية لإطلاق سراحها. وعام 2009 سافرت الأسرة إلى تركيا ودفعت 150 ألف دولار نظير بطاقات هوية مزورة وحياة جديدة في غواتيمالا.
نجحت الخطة لعدة سنوات، لكن الروس الذين دأبوا على تعذيبهم لم يكفوا. ففي عام 2015 ألقي القبض على أسرة بيتكوف من قبل السلطات في غواتيمالا لحيازتهم جوازات سفر وبطاقات هوية مزورة، وكان ذلك بضغط من «بنك في تي بي» وغيره من البنوك. وزعمت تلك البنوك التي كانت خاضعة لعقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقب الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014، أن غرضها كان استرداد قيمة القروض التي حصلت عليها مشروعات الأخشاب التي يديرها بيتكوف.
خاضت عائلة بيتكوف المعركة القضائية وواصل المدعون الضغط، وكانت «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا» تمارس الضغط من جانبها أيضاً. وعندما حكمت محكمة الاستئناف في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بإدانة عائلة بيتكوف بمخالفات إدارية فقط وبرأتها من أي اتهامات خطيرة، استمر الضغط من قبل المدعي العام و«لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا». وبحسب الكاتبة الصحافية أوغرادي، لم يمر سوى يومين على حكم محكمة الاستئناف عام 2015 حتى قامت السلطات الروسية باقتحام منزلي شقيق إيرينا بيتكوف ووالدة إيغور بيتكوف في روسيا لا لشيء إلا لأنهم أرسلوا المال إلى العائلة في غواتيمالا.
وفي يناير (كانون الثاني)، تجاهلت محكمة أخرى الاستئناف المقدم من إيغور وحكمت عليه بالسجن 19 عاماً، وزوجته وابنته بالسجن 14 عاماً.
ظاهرياً، جاء الحكم استناداً إلى ثبوت الإدانة بالتورط في استصدار مستندات هوية مزورة مقابل رشوة. لكن الكاتبة الصحافية أوغرادي أشارت إلى أن عائلة بيتكوف لم تكن الجاني بل الضحية.
وحتى يومنا هذا، لا تزال «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا» تقف في صف المحكمة ضد عائلة بيتكوف بزعم أن العقوبة القاسية جاءت كجرس إنذار للقائمين على الاتجار بالبشر.
لم يقتنع الكثيرون بالأسباب التي ساقتها المحكمة، فمثلا قال لي عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري ورئيس «لجنة هلسنكي»، الأسبوع الحالي إن هذا الظلم المتناهي الذي لاقته عائلة بيتكوف في غواتيمالا من خلال «لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الإفلات من العقاب في غواتيمالا» من شأنه أن يثير الكثير من الأسئلة بشأن أسرة كل جريمتها أنها هربت بحثاً عن الأمان في غواتيمالا.
نستطيع أن نرى بوضوح كيف أن روسيا تستطيع التأثير على المنظمات الدولية لتبعدها عن الهدف الذي أنشئت من أجله بأن تلاحق معارضيها وتنتقم منهم لتجعل المجتمع الدولي يقف عديم الحيلة. ولهذا فقد آن الأوان لحماية المنظمات الدولية من النفوذ الروسي في الكيانات الدولية. قد لا يمنع ذلك الروس من مواصلة سلوكهم العدواني، لكنه قد ينقذ النظام الدولي الذي يبدو أن هناك في روسيا من يعمل على تدميره.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»