رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

إعادة بناء الدراسات الإسلامية

انشغل العرب والمسلمون بمكافحة التطرف والإرهاب في السنوات العشر الماضية، وربما ينشغلون بذلك في السنوات العشر القادمة. وبنتيجة تجربة العقد في هذه المسألة الخطيرة على الدين والمجتمعات والدول في العيش والكتابة والتشاور مع الزملاء مثقفين وإعلاميين ومختصين، فقد استوعبتُ هذه التجربة المرة في مصطلحين: التأهُّل والتأهيل. وأقصد بالتأهُّل العمل معاً على معرفة العالم وظواهر الحداثة، ومتغيرات المجتمعات، لكي تتأهَّل بهذه المعرفة الضرورية مؤسساتنا الدينية والثقافية والإعلامية. فالتأهُّل يعني أنّ التغيير ينبغي أن يحصل في بنى المؤسسات والجهات لكي تصبح مستعدة لمواجهة الظواهر الخطيرة. وفي الوقت نفسِه يكون التوجُّه إلى التأهيل في البرامج التعليمية وتجديد الخطاب الديني، وتدريب الأئمة والمدرِّسين، ومخاطبة الجمهور لمنع تكون أجيال جديدة من المتطرفين، بعدما شهدته مختلف الجهات والجبهات من أفغانستان والصومال وغرب أفريقيا وإلى سوريا والعراق وليبيا، التي عرفت وتعرف تحشداتٍ وميليشياتٍ من «القاعدة» ومتفرعاتها وإلى «داعش» ومصائبه.
على أنّ هناك مجالاً آخر ما لقي الاهتمام ذاته لعزلته النسبية في الجامعات والجهات الأكاديمية وشبه الأكاديمية. فتخصُّصُ الدراسات الإسلامية غربي النشأة والتطور على أيدي المستشرقين. وهناك مئات الأقسام وعشرات المعاهد والمجلات التي يعيش بها وعليها هذا التخصص خلال أكثر من مائة عام. والمعروف أنّ هذا المجال شهد إدانة شاملة من جانب إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» (1977)؛ باعتبار أنّ خطابه هو خطابٌ استعماري. إنما بين هجوم إدوارد سعيد واليوم حصلت انسداداتٌ وتصدعاتٌ في أكاديميات تلك المؤسسات ناجمة عن أمرين متناقضين: ظهور المراجعين الجدد أو المستشرقين الجدد الذين خرجوا على تقاليد الاستشراق، وأرادوا تغيير الصورة عن القرآن والإسلام بداعية التفكيك للنص، وللتاريخ الذي عمل النص في سياقاته عبر العصور. ومن جهة ثانية فإنّ المراجعين الجدد من العرب والمسلمين هجموا هم بدورهم على التقليديات النصية والمعرفية، وعملوا ليس من خلال الميليشيات فقط؛ بل ومن خلال العروض الدعوية، والتخصصات في كليات الشريعة والدراسات الإسلامية، لإحقاق النظام الكامل، وتطبيق الشريعة. فإذا كان المستشرقون الجدد قد اندفعوا بالأدوات الأكاديمية لتخريب ما اعتبروه صورة نمطية مستنصرين ليس بالثورات في العلوم الاجتماعية والإنسانية فقط؛ بل وبموجات الإسلاموفوبيا في الغرب والعالم؛ فإنّ أصوليينا في حركات الصحوة، وفي الجامعات الدينية أرادوا إبراز الحاجة الملحة إلى جعلنا أكثر إسلاماً وأكثر تطهرية، وأكثر إقبالاً على تطبيق الإسلام، الذي عاد غريباً كما بدأ! وبذلك، ووسط هاتين الأصوليتين أو الأصاليتين، ما عاد هناك مجالٌ حُرٌّ للتفكير والتقدير والبحث بين هاتين العقائديتين الغربية والمشرقية! وقد أتى علينا زمانٌ في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، عانينا فيه نحن الذين ندرِّس الإسلاميات في جامعات الغرب والشرق من هذين المنزعين. ففي الغربين الأوروبي والأميركي ما عاد لنا عملٌ غير الإجابة عن متى ظهر القرآن، وهل هو نصٌّ أو مجموعة من النثائر المجموعة كيفما كان بعد قرنٍ أو أكثر على وفاة النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه وصحابته الأولين. وفي المشرقين العربي والإسلامي انشغل الجميع بالإجابة عن كيفية استعادة الإسلام في المجتمعات والدول، ولماذا لا تُطبَّقُ الشريعة، وما معنى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما هي مآلات الثوران السلفي في الديار العربية والإسلامية.
لقد كنتُ من قلة اعتبرت أنّ أسئلة المراجعين الجدد وأسئلة الصحويين على حدٍ سواء هي أسئلة وهمية. فالشريعة مطبقة ولا تحتاج إلى تطبيق، والدين حاضرٌ جداً ولا يعاني من غربة. أما القرآن فهو نصٌّ قائمٌ وحاضرٌ في حياة الجماعة منذ أيام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد تعبنا من البحوث حول أصول الكتاب وعلائقه بالعهدين القديم والجديد منذ أكثر من مائتي عام! وأما التاريخ الإسلامي فهو مدرَّنٌ بأحداثه المتكاثرة منذ القرن الأول، وما عرف التزوير المزعوم الذي يزعمه أهل القطيعة من الطرفين، ولا غيرت الأرثوذكسية صورة الدين أو التاريخ.
إنما بعد أربعة عقودٍ من الإنكار المتبادَل والإصرار المتناقض والمتصارع، وليس في الشارع فقط بل وداخل أسوار الجامعات والأقسام الأكاديمية، ما عاد يُمكن الإنكار أنّ تخريباتٍ حصلت، وانسدادات اشتدّت؛ وذلك ناتجٌ عن الخلاف على المفاهيم الرئيسية، وعلى ما هو الإسلام، وما هي الشريعة، وما هو التاريخ، وما معنى الحركات الإسلامية الحديثة، ولماذا هذه الكراهية للدولة الوطنية الجديدة، ولماذا هذا الاستثناء الإسلامي، والآخر العربي، وما هي ظواهر «القاعدة» و«داعش» في الحقيقة؟ ولماذا هذا العنف الذي لا يهدأ باسم الإسلام؟! وبالطبع فإنّ اختبار هذه التساؤلات لا يمكن أن يجري في الميادين وعلى وقعها؛ بل في مراكز الأبحاث، وورشات العمل، وأقسام الدراسات الإسلامية والعربية.
ولذلك فقد نهضنا في كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية بالجامعة الأميركية ببيروت، لعقد مؤتمر عنوانه: إعادة بناء الدراسات الإسلامية، يجمع عشرات البارزين في حقل الدراسات الإسلامية من الشرق والغرب، ويناقش على مدى ثلاثة أيام مسائل المراجعة وإعادة البناء في دراسات الإسلام، والسياقات الجديدة الحافلة بالمناهج الجديدة بل وبالنصوص الجديدة. ونحن نأمل أن يشكِّل ذلك كلُّه وقفة نقاشية وتشاورية في أصول هذا التخصص ومآلاته ووظائفه، ومكانته في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية. والأمل ليس في المناهج الجديدة فقط، وليس في انكشاف الأصاليين من الطرفين وانكباحهم؛ بل وفي الأجيال الجديدة من الدارسين العرب والمسلمين الذين ينتشرون اليوم في جامعات الغرب والشرق، فيضعون لدراسات الإسلام أفقاً جديداً فيما وراء التطبيقيين والاستئصاليين العدميين.
لا يجوز الاستسلام في البحوث العلمية وشروط الأكاديميا لمقولات اليقين والتحريم، وهو مثل الاستسلام للديكتاتوريات والعنفيات. إنّ البحث العلمي يقتضي الحرية والشجاعة والمسؤولية وتحدي المسلَّمات والتخرصات في الوقت نفسه.
جاء في القرآن الكريم: «يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون» (الأنفال: 6)، إنها حيادية عبثية وغير معقولة بل غير إنسانية، تلك التي نشهدها اليوم حينما نتأمل جسد الأمة يتردى في الهلاك، ونحن في وعينا أو لا وعينا ننظر إلى هذا الجسد كأنما هو غيرنا، ولا علاقة لنا به، والقرآن يقول: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» مغامرة أو جبناً. فلا حول ولا قوة إلا بالله.