حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

فساد الانتخابات

لم تعد الانتخابات التي ستتم في لبنان هي الحدث، بل التجاوزات التي لا عد ولا حصر لها هي ما يشغل الناس. بعض ما يجري كالاعتداء الآثم على الكاتب المرشح علي الأمين من قبل جلاوزة «حزب الله»، بعد حفلة تخوين لكل منافسي «الحزب» المذكور، والتخوين تجاوز خطاب الثنائية الشيعية، أعاد كثيرين للتفكير: هل المطلوب من المواطنين الاقتراع بحرية، أم البصم على تسمية نواب الدويلة؟ خصوصاً أن هذا الأمر الفضيحة؛ الاعتداء على الأمين وما حدث قبله من استهدافات، لم يستوقف أي جهة رسمية، حتى المسماة «الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات»!!
وحتى لا تكون «ديمقراطية» تحالف المحاصصة الحاكم بكل أطرافه وسيلة شرعنة الأمر الواقع، جاءت الاستقالة المدوية للسيدة سيلفانا اللقيس، الممثلة الوحيدة للمجتمع المدني في الهيئة العليا للانتخابات، لتؤكد المؤكد، وهو تحيز السلطة وأجهزتها بشكل فاضح، و«على عينك يا تاجر». تدخلات رسمية من أعلى المواقع في الترشيح وتركيب اللوائح. صفقات تزكم الأنوف: وزير مرشح يتهم وزيراً سابقاً منافساً بأنه سطا على 100 مليون دولار من المال العام. الحدث عادي لا اهتمام. وتستمر الحملات واستغلال النفوذ. هواء الإعلام مفتوح لكبار المتمولين والإعلان بات حكراً لهم، والأمكنة العامة تمت استباحتها من جانب النافذين وهم كُثر، وكل جهة لديها مؤسسات الإحصاء التي توزع النتائج، وتعلن الفائزين من اليوم وقبل موعد الاقتراع. والضغوط متعددة ومبتكرة للتأثير على الناخب كوسائل الرشوة، حيث كل ما لا يمكن تخيله مباح. السباق للفوز بعضوية المجلس النيابي انطلق، والتوقعات بأن يفوز بالعضوية نحو 40 في المائة من كبار الأثرياء الذين خصصوا مئات الملايين من الدولارات ليس سراً، فيما أكثر الباقين هم من جماعة «أمرك سيدنا»، ويغيب حتى الحد الأدنى ممن يمكن أن يوصفوا بمشرعين يحملون مصالح وهم الناس والبلد. والأخطر من كل ذلك أنَّ انتخابات من هذا النوع، ستضع البلد أمام أحاديات وثنائيات مذهبية، وواقعياً ستهدد نتيجة برلمانيات الـ2018 كلَّ التعددية التي كانت بالمبدأ من ميزات النظام البرلماني اللبناني الذي يجري وأده عبر انتخابات وصفتها الاستقالة بأنها فاسدة.
سيلفانا اللقيس اتهمت في استقالتها، وزارة الداخلية، بممارسات تتعارض مع نزاهة الانتخابات. وقالت إن «النزاهة والشفافية ليست مجرد حديث عابر، بل مسؤولية، وأن ما تفعله الوزارة، وما قامت به حتى الآن، أدى لأن تحُلّ مكان اللجنة (المستقلة)». وكشفت الاستقالة التي جاءت قبل أقل من أسبوعين من موعد الاقتراع، أن اللجنة ككل تقف أمام حائط مسدود من مخالفات خطيرة. مخالفات يقوم بها كبار القوم يتقدمهم 17 وزيراً أعضاء في الحكومة الحالية هم من المرشحين للانتخابات، ويتوزعون على أبرز اللوائح، ما يعني أن المتاح أمام الهيئة «المستقلة» هو مراقبة الأطراف غير المنتمية لتحالف المحاصصة الحاكم!! وبينهم لوائح غير مكتملة رفض أطرافها التسليم بواقع مر مفروض.
ما قالته السيدة اللقيس يعرف بعضه المواطن العادي، لكنها المرة الأولى التي يقف فيها شخص يحمل على أكتافه همَّ المشاركة بإنجاز انتخابات نزيهة وشفافة تنسجم وما ينص عليه الدستور، ليقول للمقترعين ولكل الناس: «لا أريد أن أكون شاهد زور». وقد أوضحت اللقيس أن الهيئة حاولت أن تصلح الأمر من الداخل، ولم تنجح، وكشفت أن السلطات لم توفر الموارد الضرورية، المالية والبشرية، كي تقوم الهيئة بمهامها... وقالت «هناك مسٌ مباشرٌ باستقلالية الهيئة وصلاحياتها بداعي التنسيق مع وزارة الداخلية». ودون شك لم تهدف الاستقالة المدوية إلى تدمير هيئة الإشراف، بل رمت أولاً لتصويب مسارها، لكن ردة فعل وزارة الداخلية جاءت لتشي بأن المكتوب مكتوب، وأنه بعد كل هذا التمديد لبرلمان العام 2009، وبعد هذا القانون الهجين الذي أفرغ النسبية من مضمونها الحقيقي، عندما قسّم لبنان دوائر غير متساوية، ووضع حاصلاً للتمثيل يلغي الأطراف الصغيرة، وبعد ذلك عبر اعتماد بدعة الصوت التفضيلي ما أطلق عواصف التجييش الطائفي والمذهبي، ولأنه أدخل الأكثرية في صلبه، فتح الباب على مصراعيه أمام أنواع من الرشوة التي لم تعرفها انتخابات سابقة، فيقول مرشح عن مدينة زحلة إن الانتخابات تحولت إلى مزادٍ علني (...)، ويجمع الكثير من المراقبين المستقلين على القول: إن البلد في مرحلة المقعد النيابي الأغلى ثمناً، وفوق كل ذلك فإنه يمكن تلخيص الموقف الرسمي بعبارة واحدة: هذه هي الانتخابات ودبروا رؤوسكم!!
الاستقالة ليست بالأمر البسيط، إنها أشبه بطعن بالعملية الانتخابية قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فهي البيان الرسمي المسؤول الذي يؤكد تجاوز القانون لجهة عدم وجود إشراف على الانتخابات. بهذا المعنى تكون الاستقالة قد فتحت الباب على مصراعيه للطعن الشامل بكل العملية الانتخابية، وبداية الطعن ضد كل وزير يُعاد انتخابه، لأن ما قيل مضبطة اتهامات تبدأ بغياب النزاهة واستغلال النفوذ وتسخير كل الإمكانات الرسمية خدمة لتحالف أهل السلطة، وإن كان يلاحظ أنه بين طرف وبين آخر هناك فروقات بسيطة، لكنها لا تغير كثيراً في الصورة العامة.
السؤال الذي يطرح نفسه هل فعلاً هناك في موقع القرار كُثر ممن يريدون اليوم إجراء انتخابات لا هاجس منها إلاّ تكريس المحاصصة الطائفية، ومنع البلد من منحه مجرد فرصة للبحث الحقيقي في كيفية الخروج من أزماته، وأنهم يعيقون إنجاز انتخابات تكون مناسبة للتأكيد بالفعل على الديمقراطية التي تُتيح إدخال دمٍ جديد حقيقي إلى الندوة النيابية، وإشعار الناس بوجود نسبة كبيرة من الممثلين الحقيقيين لهم، وأي عقل هو أو عقول تصر على أخذ البلد أكثر فأكثر إلى الهاوية، وألا يوجد من يتعظ من المغزى الكبير للاستقالة المدوية لفرملة هذه الاندفاعة التي وَسمت الانتخابات بأنها فاسدة، وأن الناس سيكونون في السابع من أيار اليوم التالي للانتخابات أمام الدوامة نفسها؟