فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

التعليم الفلسفي بتونس حين حمى الدولة

لم تكن يوماً الفلسفة حليفة التعليم، برغم ممارسة الفلاسفة لتعليم الفلسفة منذ ألفين وخمسمائة سنة؛ ذلك أن التعليم يشل من حركتها وحريتها، ولكن لا مناص من تعليم الفلسفة برغم كل الشروط التي يجب أن توضع من أجل إنجاح التجربة التعليمية لها. قبل أيام غرّد عبد الرحمن الشقير بصفحة من مقرر الفلسفة بثانوية تونس. كان الموضوع فيها حول أهمية الوعي بالتاريخ، والنص من كتاب شبنهور «العالم إرادة وتمثّلاً»، ومن ضمن الاقتباس: «إن الإرادة هي المعرفة القبلية للجسد، والجسد هو المعرفة البعدية للإرادة»، وقد تذكرتُ حينها مكان النص هذا في كتاب شبنهور، وأحيل إليه الآن في ص: 195 من الكتاب.
والنص المدرج يعبر عن عصب أساسي من مجمل طرح شبنهور في كتابه الذي يعتبر من أهم الكتب الفلسفية في القرن التاسع عشر وحتى الآن، ومعلوم أن الكثير من تأليف شبنهور كان بغية إكمال نقائص فيلسوفه الأثير كانط، وهذا ما يشير إليه في نقده المعنون بـ«نقد الفلسفة الكانطية»؛ إذ يقول: «كانط هو من أدخل الرعب العارم في الفلسفة، لكن فضله على الفلسفة وعلى الفلاسفة لم يكن كاملاً بل مرفقاً بأخطاء معينة»، ويمثل على ذلك بأن: «خاصيات الفكر الكانطي ميوله إلى التماثل الذي يفضل التعددية في التنظيم وتكرار النظام في عدم النظام، كما نجد ذلك في الكنائس الغوتية». من هنا فإن اختيار هذا النص في المنهاج الثانوي للفلسفة يعتبر إضافة لشحذ العقل وإيقاظه.
يعتبر الدكتور صالح مصباح، وهو أستاذ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، أن تدريس الفلسفة في تونس يعود إلى أبعد من بدايات الاستعمار الفرنسي، مذكراً بمناهج الدرس في جامع الزيتونة منذ عهد الحفصيين، معمماً هذا النموذج على ما كان يدرّس في الجامع الأزهر بمصر، والأمويين في سوريا، والقرويين في مراكش. وبما يتعلق بالتعليم للفلسفة في الثانوية يقول في دراسة له إن القائمين على البرامج «اعتمدوا الفلسفة والنصوص العلمية، ونصوص المفكرين، وبعض الروائيين المنتمين إلى الحضارة العربية الكلاسيكية كما المعاصرة، معتنين بينابيع التفكير بالمسائل الكبرى عند ابن سينا، وابن الهيثم، والغزالي، ومسكويه، وابن رشد، وابن حزم، والفارابي، والكندي، وابن خلدون، وغيرهم من العرب الكلاسيكيين ميخائيل نعيمة، ونجيب محفوظ، وسمير أمين، وعبد الكبير الخطيبي... وكذلك من المفكرين والأبستمولوجيين، ومفكري الاقتصاد والجماليات».
تلك تجربة تدريس تونس للفلسفة بالثانوية، وهي من أنجح التجارب العربية. بعض دول شمال أفريقيا انصاعت لمطالب المتشددين فألغت تعليم الفلسفة، وبعضها يخلط بين مجالين متناقضين مثل أن يطلق على منهج الفلسفة: «الفلسفة والفكر الإسلامي»، وهذا فيه خلط بين مجالين ومشربين مختلفين. ولكن أما والجدال حول طريقة البدء بتعليم الفلسفة بالسعودية لا يزال حامياً فيمكن الاستئناس بتجربة تدريس الفلسفة في تونس للثانويات، فهي مضيئة وراهنة، وقد أثبتت جدوى تدريسها مع تطوّر الأحداث، وقد كنتُ قبل أيام في نقاش مع رئيس تحرير تونسي ممن درسوا المناهج وخبروها وكانوا يذكرون حتى فترة مجيء الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى تونس للتدريس يعتبر أن قرار تعليمها من مناقب الراحل الحبيب بورقيبة، وكان لاسمين اثنين مثل الأزهر الشابي، ومحمود المسعدي الأثر الكبير في تقوية التعليم التونسي، ومن ثم يضيف أن قوة التعليم هي التي حمت تونس بعد أحداث 2010، وأن الدولة بعد ذهاب بن علي وضع على مؤسساتها أساتذة فلسفة قبل الذهاب إلى انتخابات المجلس التأسيسي. فالفلسفة ساهمت في تقوية التعليم وبالتالي حماية الدولة، فتعليمها لا يبدو ترفاً على الإطلاق، بل ينشئ جيلاً لديه الحد الأدنى من النظرة النقدية، أو الخبرة الوجودية.
يمكننا مثل الآخرين البدء بتعليم الفلسفة، ومن ثم اختبار المناهج دورياً والإضافة عليها والتعديل، هذا مع الالتزام بشرط الحرية في النقاش والسجال، وحثّ الأذهان على التعلم والاستزادة والمثابرة في السؤال والبحث عن مقاربات للإجابات، وهذه ليست من المستحيلات، فالدول خاضت هذه التجربة واستفادت منها على مدى الأجيال، وقوّت من عقول المجتمعات التي عممت عليها دراسة الفلسفة وزادت من التقوى الوطنية، والحيوية الوجودية... ولهذا أقول إن الفلسفة هي المصل ضد الآيديولوجيا.