أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

عن الخيار القومي في ذكرى تأسيس {البعث}!

يذهب كثيرون إلى اعتبار يوم تأسيس حزب البعث، في السابع من أبريل (نيسان)، يوم شؤم عربي، ربطاً بالحالة المأسوية التي وصلت إليها مجتمعاتنا، وخاصة في سوريا والعراق، منذ توسلت طغمة عسكرية انقلابية، العقيدة القومية، لتسويغ استبدادها وفسادها.
والنتيجة، تشويه الروابط الوطنية والقومية، وتكريس ولاءات متخلفة تفيض بالانتهازية والشوفينية والاحتقانات المذهبية، يحدوها عنف وفساد منفلتان، وفشل في وقف تدهور المجتمع ومعالجة أزماته، تكللت باستجرار كل وحوش الأرض لاستباحته، وإيصاله إلى درك لا يحتمله عقل أو ضمير من الخراب والضحايا والمشردين.
والنتيجة أيضاً، أن يهزأ وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو بالعرب، عبر كلمات تنضح بغطرسة إمبراطورية عثمانية، خلال رده في مؤتمر ميونيخ على تحفظ مندوب الجامعة العربية على حرب عفرين! وأن يفاخر قادة إيران بأنهم باتوا يتحكمون بأربع عواصم عربية، ويقرر علي أكبر ولايتي بعنجهيته المعهودة، ونيابة عن الشعب العراقي، حظر وصول الشيوعيين والليبراليين إلى الحكم، بينما تتوغل إسرائيل عميقاً في الدم والحق الفلسطينيين، وتستثمر التردي العربي لقضم القدس وأراضي الضفة الغربية، الأمر الذي يذكرنا بصورة قديمة لما عرف بـ«تركة الرجل المريض»؛ حيث كانت المجتمعات العربية ضعيفة ومنهكة وتتنازع السيطرة عليها أطراف استعمارية خارجية، مستبيحة أرضها ومقدراتها وحيوات أبنائها.
في الماضي، حمل ثلة من المثقفين العرب لم يعشش اليأس والإحباط في نفوسهم، لواء مناهضة هذا الضيم، ولجأوا إلى الفكر القومي لتغذية نضال تحرري نجح في طرد المستعمر، والتأسيس لبناء أوطان حرة، إلا أن غالبية الأنظمة التي قامت بعد الاستقلال استغلت هذا الفكر لمآربها الخاصة، وسخرت شعاراته عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين لتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات والمغانم، الأمر الذي عمّق أزمات مجتمعاتنا السياسية والاقتصادية، وأبقاها رهينة للتخلف والعجز وللأقوى إقليمياً ودولياً.
المقارنة والمقاربة بين الماضي والحاضر، مع حفظ الفوارق، تظهر مدى حاجتنا اليوم لخيار قومي جديد غني بعمقه الحضاري، وبقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، يصعب من دونه إحياء الأمل مجدداً في الخلاص والتغيير، وتوجيه الأجيال العربية نحو التعاضد والتكافل لمواجهة التحديات المشتركة والاستحقاقات الحضارية.
صحيح أن الهم القومي لم يكن سبباً حافزاً لثورات الربيع العربي؛ لكنه كان حاضراً بقوة في تواترها وتماثل شعاراتها وصور التضامن بين أبنائها، ولنقل في تشابه دوافع انطلاقها رداً على ما آلت إليه أحوالنا من قهر وتردٍ، والأهم في خصوصية تموضعها ضد أنظمة استبدادية، استندت إلى الفكر القومي في وصولها إلى السلطة، واتحدت أدواتها القمعية، كأنها في معركة واحدة، لإجهاض تطلعات الناس وآمالهم.
الاستنجاد بفكر قومي تعضده قيم الحرية والكرامة ليس ضرباً في الهواء أو أمنية فارغة أو نوعاً من تقليد الماضي؛ بل هو الخيار الأجدى لمعالجة الانهيار العربي الراهن، إنْ لجهة دوره أولاً في مناهضة تفاقم ظواهر العنف، ولغة المكاسرة والغلبة التي تفشت في بلادنا، ربطاً بما يضفيه انتماؤه للبيت ذاته من مشروعية وجدوى في نقد وتعرية أنظمة تلطت وراء الشعارات القومية؛ لتنحدر كلياً نحو الديكتاتورية والدولة الأمنية، وتسوّغ من أجل الحفاظ على سطوتها وفسادها، قتل مواطنيها وتدمير مجتمعاتها، وربطاً بقدرته على التعبئة للحد من التدخلات الخارجية في شؤوننا، وردع هذا التنازع المسعور، إقليمياً ودولياً، للسيطرة على مصيرنا ومقدراتنا.
وثانياً، لدوره المجرب في محاصرة جماعات تحمل راية الإسلام السياسي، وتسوّغ لنفسها قهر مجتمعاتنا وتفتيتها دينياً وطائفياً، وغالبيتنا تتذكر نجاح الخيار القومي في مختلف بلدان المشرق العربي، مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، في التصدي للتطرف الأصولي وحركات الإسلام السياسي وهزيمتها، بما في ذلك الارتقاء بالدين نحو أفقه الروحي بعيداً عن مستنقع السياسة وآثامها، وتالياً نجاحه في كسب فئات شعبية واسعة كانت تجد في الخيار الديني بديلاً وملاذاً روحياً، يعينها على مواجهة ما تكابده من قهر وفقر.
وثالثاً، لأنه الخيار الأقدر ببعديه الديمقراطي والإنساني على التعامل الصحي مع التعددية والتنوع الإثني والديني في مجتمعاتنا، بما في ذلك تعرية أطراف تروّج للعصبيات القومية والتطرف الآيديولوجي الأعمى، وتبيح لنفسها ممارسة الإلغاء والإقصاء والاعتداء على حقوق الآخرين وحرياتهم. والأهم لأنه الخيار الذي يستمد مشروعيته وقوته من معاناة مشتركة للشعوب العربية المقهورة، ومن تفاغر وحدة مصيرها، وخلاصها في إرساء قيم الديمقراطية والمواطنة التي تساوي بين البشر، بغض النظر عن جنسهم ودينهم وعقيدتهم وإثنيتهم، ما يبيح تفسير انتماء غالبية رواد الفكر القومي إلى الأقليات الدينية، بصفته خيارهم للارتقاء إلى مجتمع لا يكونون فيه مواطنين من الدرجة الثانية، كما كان حالهم إبان مرحلة السلطنة العثمانية.
اللجوء إلى الحافز القومي للرد على انحطاط المجتمع وأزماته المستعصية هو خيار قديم عرفته شعوب كثيرة عبر التاريخ؛ تجارب اليونانيين ضد أعدائهم، ثم الفرنسيين والألمان والإيطاليين، وأخيراً الشعوب التي انضوت تحت ما سمي المنظومة الاشتراكية، حيث تغذت بالروح القومية الديمقراطية، للتحرر والانفكاك من الشمولية السوفياتية.
لا يكاد التاريخ ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر، وإذا كان حصاد الشعارات القومية البعثية البراقة طيلة عقود لم يكن إلا الهزائم والانكسارات ومزيد من التردي والفساد وقهر الإنسان وإفقاره، فقد آن الأوان، في ظل التعقيدات التي راكمتها سنوات الاستبداد والثورة المضادة، لإزالة هذا المستنقع الآسن، وفتح صيرورة قومية جديدة، لعل أهم ما فيها تقدم دور العرب الأحرار في تقرير مصيرهم، وصياغة مستقبلهم دون إقصاء أو وصاية، تحدوها تعرية كافة الالتباسات التي أحاطت بالفكر القومي، من اندفاعات شوفينية بالغة الخطورة ارتكبت باسمه، ومن ممارسات دأبت على تعميمها قوى الاستبداد، لتشويهه وتحويله إلى آيديولوجيا مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري.