امتلأت شاشات التلفزة على امتداد الأرض بمشاهد عن سقوط مدينة الموصل وما تبعها من انهيار مفاجئ وغير مفهوم – للعامة على الأقل – لقوات الجيش العراقي، ثم سمعنا عن كميات الأسلحة التي استولى عليها أفراد (الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش)، ومئات الملايين من الدولارات التي نهبوها من بنوك ثاني أكبر مدن العراق وأعمال الترويع والإذلال التي مارسوها. وفي المقابل يدور جدل في أوساط يشارك فيه الكل عن الجهة التي تتحمل مسؤولية هذا التحول السريع في موازين القوى على الأرض، ويلقي كل فريق الاتهام إلى الخصوم وتكثر التحليلات وتتزايد أعداد الباحثين عن تصيد الحدث لتحويل الأنظار إلى جهات لا ينتمون إلى تياراتها الفكرية والسياسية والمذهبية.
الشخص الوحيد الذي يتفق الجميع على توجيه أصابع الاتهام إليه وإلقاء المسؤولية على عاتقه هو رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي الذي يدرك الجميع أن محركه المذهبي كان العامل الحاسم في انهيار الأوضاع الأمنية وتزايد القطيعة بين أبناء العراق وارتفاع النبرة المذهبية وتعميق جروحاتها واستجرار مآسيها، وتحول في خطابه من رجل دولة معني بأمر العراقيين إلى ما يشبه زعيم طائفة يسعى إلى تثبيت حكمه عبرها وعبر نفي الآخرين وتقزيمهم، وأعاد إلى الذاكرة ما فعله حكام صربيا بمسلميها والمجازر التي ارتكبوها بحقهم والتنكيل الذي تعرضوا له.
في خضم ما يجري في العراق وسقوط الكثير من مدنها بيد التنظيمات الإرهابية، يتوارى العرب خلف البيانات التي تندد بما جرى وترتفع نبرتها في توجيه الاتهامات إلى كل الأطراف وتدعو إلى ضرورة التدخل السريع لإعادة الاستقرار في هذا القطر العربي... وبطبيعة الحال تتوجه الأنظار إلى الرئيس الأميركي أوباما لينتظر الجميع ما سيجود به وما سيفعله لإنقاذ العراق.
عندما قرر الرئيس السابق جورج بوش الابن غزو العراق تحت مبرر غير حقيقي وذريعة بلهاء عن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل لم يكن حال العرب أفضل مما هو اليوم، ولم يزد عن تحذيرات وبيانات أطلقت عن الآثار المدمرة التي ستلحق بالعراق بداية وما تبعه من أقطار، وما ستحدثه من تبدل في موازين القوى وانفراط للعقد الواهي من التضامن العربي، وليس من المبالغة القول: إن ما يجري في العراق اليوم هو نتاج السلبية التي تجتاح المشهد السياسي العربي والشلل الذي أصاب كل منظومة العمل المشترك وتحول القضايا المصيرية إلى مسرح مزايدات جعلت من الحجر والبشر مجرد أشياء لا قيمة لها، وصار العبث هو سيد الموقف وانصرف الكل إلى شأنه تاركا العراق بيد القوة الغازية ومن خلفها الطامع الأكبر والأكثر دهاء: إيران، التي تمكنت - وهذا حقها الطبيعي - من استغلال الفراغات التي تشكلت على الأرض وعمقت نفوذها، مدركة أن المؤسسات العربية قد انكمشت مرة أخرى نحو الداخل وصار العراق بالنسبة لها أمرا لا يمكن التدخل فيه بحسب النظرية العربية الشهيرة (عدم التدخل في الشؤون الداخلية)، وهي نظرية لا يجوز التمسح بها ولا التمسك بها في ظل أوضاع صارت تمثل تهديدا لكيانات كثيرة في كل قطر قرب أو بعد عن العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن أو السودان أو أو أو....
يقف العراق ومعه سوريا على رأس قائمة الأدلة الفاضحة لحالة التردي والسوء التي وصلت إليها الأحوال، ومن الواضح أن الأمر قد بدأ مع الاقتناع بنظرية (عدم التدخل في الشؤون الداخلية) التي يمكن القبول بها وبتبعاتها إذا كانت النتائج المترتبة عن تفكك البلدين ستظل محصورة داخل حدودهما، لكن المؤكد أن ساحتيهما تحولتا إلى ميدان تدريب لأفراد من دول عربية وأجنبية وهؤلاء لا بد أن يعودوا يوما إلى ديارهم محملين بفكر متطرف ومهارات قتالية وسيبحثون عن ساحات لإبرازها، وحتما أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية ستصلى بنار حمم الحقد والكراهية التي تتشكل أمام أعيننا.
واقع الحال أن الرئيس الأميركي برهن على حالة فريدة في السياسة الأميركية الخارجية بتردده في اتخاذ القرارات المطلوبة في الوقت المناسب ما منح فسحة طويلة من الوقت للجماعات التي كانت تبحث عن مواقع جديدة لتمددها بعد أن تمت محاصرتها في أقطار أخرى، وهنا كان خطأ أوباما.
حسابات واشنطن لا يمكن أن تستقر على حال ويجب ألا نتوقع منها التحول لإرضاء رغبات كل من يستجير بها، فالولايات المتحدة ليست جمعية خيرية تتولى إنقاذ كل من يتصور أنها قادرة بمفردها على مساعدته، وهنا كانت خطيئة العرب.
لقد مرت دول عربية بمحن وكوارث، وما زالت، ولم يكن واقعيا أن يكون الصمت (البيانات ليست إلا تعبيرا عاطفيا عن حالة من الشعور بالضعف وانعدام القدرة) هو سلاحنا، ولا يجوز أن تكون الاجتماعات في عواصم العالم هي الأداة الوحيدة في السعي لمساعدة العراقيين والسوريين على إعادة الأمور إلى نصابها، فقد رأينا كيف انكفأ العرب بعد أن انتهى نظام حكم البعث بمآسيه، واعتقد الكثيرون أن نعيم (الديمقراطية الأميركية) الوارد إلى المنطقة سينطلق من بغداد وسيعم خيره بقية الأقطار، وانكفأ العرب وعادت نظرية (عدم التدخل في الشؤون الداخلية) لتتسيد المشهد السياسي، ولكن إيران في المقابل لم تعترف بهذه النظرية ولا تعمل بها، فقد استغلت كل فراغ نجم عن انهيار الحكم في بغداد، وهذا حق أتصوره طبيعيا لكل دولة كبرى، وكانت الشواهد على إصرار طهران (التدخل في الشؤون الداخلية للعراق وسوريا وغيرهما) كثيرة وعمدت على إضعاف كل القوى العراقية التي كانت تسعى للملمة جراحات العراقيين واكتفت بالتركيز على الذين يحملون ولاء مذهبيا يتقدم على ولائهم الوطني، ونجحت في تهميش كل معارض لهذه السياسات... ومرة أخرى لم تتمكن العواصم العربية من الاتفاق على سياسة مشتركة لمواجهة هذه الطموحات التي أكرر أنها مشروعة في عالم اليوم لأنها تراعي مصالح إيران القومية.. ومن المحزن أن دولا صغيرة وكثيرة الموارد لعبت أدوارا مربكة زادت من تشويش الصورة ما ساهم في تشتت المعارضة وانهماك كثيرين من عناصرها في العمل على تأمين الذات والبحث عن أدوار في وسائل الإعلام.
إن الأثمان الكارثية التي يدفعها العراق وسوريا وليبيا لن تقف عند حد سيطرة (داعش) وغيرها من الجماعات المشابهة لها، وسيكون لتفكك هذه البلدان ودخولها في حروب مناطقية ومذهبية عواقب مدمرة على أقطار أخرى.
أوباما أخطأ ولكن مصالح واشنطن لن تتأثر.. أما نحن فقد ارتكبنا خطيئة لا أدري كيف يمكن الخروج من براثينها.
TT
خطأ أوباما أم خطيئة العرب؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة