عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

فن توجيه الرأي العام

كيف توجه حملة مؤثرة في الرأي العام دون أن يكتشف الناس وجودها؟
معضلة تواجه خبراء العلاقات العامة ومديري الحملات الانتخابية.
فن جديد يمزج أسلوب التعبير بعلوم البحث والإحصائيات. فن توجيه المستهلك إلى تفضيل سلعة على الأخريات، أو مرشح في الانتخابات على آخر، أو حث الرأي العام للضغط على الساسة.
خذ مثلاً نموذج «الظلم» (أي التقارير والتحقيقات) الذي تشكو منه بلدان عربية وتعتبره تشويهاً متعمداً لصورتها من الصحافة الغربية. هذا الظلم نسبة لا تُذكر مما يتعرض له ساسة وحكومات الديمقراطيات الغربية من صحافتهم (الصحافة تعني كل ما يسميه العرب «إعلاماً» ووسائل تواصل اجتماعي).
نحن الصحافيين، خصوصاً في أثناء السفريات الأجنبية، نقترف أخطاء تتناقض وأساسيات المهنة. كالتكاسل عن البحث الفردي، والاحتماء بالغريزة الحيوانية تحت عباءة ذهنيةِ القطيع الذي يفكر بعقليةٍ واحدة group - think.
الحكومات العربية والأفريقية تغذّي دائرة مفرغة من عدم الثقة بتعاملها مع الصحافي الزائر بذهنية التشكيك، والذي يبادلهم بدوره التوجس وفقدان الثقة. ويتضاعف الهاجس عندما نكون مجموعةً تقيم في الفندق نفسه ونتحرك معاً (كثير من الحكومات لا تتركنا نتحرك بحرية، بل تضع مرافقيها مع المجموعة) فتظهر غريزة الدفاع عن القطيع في التشكيك في المعلومات الرسمية والبحث عما يناقضها.
تغضب الحكومات من الأخبار السلبية بدلاً من تجاهلها وتوجيه طاقتها إلى توظيف وسائل أكثر فاعلية للتأثير على الرأي العام على المدى الطويل.
وهناك شروط يستحيل حتى على الدول العظمى أن توفرها.
هنا يدخل عنصر «البحث» عن عناصر وظواهر واتجاهات تبدو منفصلة. ثم البحث بـ«الإحصائيات» عن تأثيرها في الرأي العام والحالة الذهنية الجماعية لدى المؤسسات الصحافية؛ وفن «التعبير» هو توقيت ربط هذه العناصر بعضها ببعض.
خذ مثلاً عناصر وتيارات وأسماء لا علاقة بينها، لتباعدها الجغرافي وتناقض مصالحها:
«فيسبوك» - مؤسسة الإحصاءات والعلاقات العامة «كمبريدج أناليتيكا» - لجنة الثقافة والرياضة والصحافة والفنون في مجلس العموم، وشبيهتها في الكونغرس الأميركي - مؤسسات الصحافة اليسارية البريطانية، ومثيلاتها الأوروبية والأميركية - الرئيس دونالد ترمب - الاتحاد الأوروبي - مجموعة مليونيرات ومستثمرين - معهد توني بلير للبحوث - تيارات إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي (البقائيون) - الرئيس فلاديمير بوتين - الأسلحة الكيماوية.
الحملة الذكية (لا تخرق أي قوانين، ويصعب ربطها بجهة واحدة تقودها) تموِّل نقاط تأثيرها مجموعةُ مليونيرات بهدف عرقلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإجراء استفتاء ثانٍ.
تمكن بعض الصحافيين من وصل الخطوط بين نقاط متعددة اتضح معها بعض معالم الشبكة وليست كلها، لكن التأثير ضئيل في الرأي العام لتجاهل المؤسسات وشبكات التلفزيون العالمية العملاقة التحقيقات.
عبقرية الحملة في هندسة توقيت توظيف تأثير عناصر وظواهر وسياسات بلدان وتيارات وساسة موجودين بالفعل، وتصور الرأي العام لهم سلباً وإيجاباً.
تجنب مهندسو الحملة الربط المباشر بينها بشكل يكشفه المتلقي للأخبار، وإنما بالتأثير كنتاج جانبي في العقل الباطن (subliminal effect)، أي بآثاره. ملاحظة العالم السيكولوجي بافلوف (أي الارتباط الشرطي).
وكمثال منفصل: مشجعو فريق ليفربول لكرة القدم لهم أربع أغنيات جماعية تمجّد الإسلام وتدعو للصلاة في المساجد ارتباطاً بأفضل لاعبيهم المصري محمد صلاح الذي يسجد عند تسجيل كل هدف.
ذكر أي خبر صحافي «محايد» عن الإسلام أو الحج أو صوم رمضان يمنح مشجع ليفربول إحساساً دفيناً بالتفاؤل؛ بينما يكون الإحساس معاكساً ويدعو للخوف في العقل الباطن لمشجعي نادي مانشستر، المدينة التي قُتل وجُرح فيها العشرات من قنبلة إرهابي ليبي داعشي يلوّح براية إسلاموجية. لا يعرف أيٌّ من النموذجين شيئاً يُذكر عن الإسلام، لكن ذكر الخبر أثار الارتباط الشرطي في العقل الباطن.
تداخُل الخبر الواقعي مع الصورة في العقل الباطن للظواهر التي ذكرتها أعلاه، يوظفه مهندسو الحملة الحالية التي تستهدف الناخب البريطاني.
فصورة الرئيس الروسي ومخابراته مشيطَنة في العقل الجماعي الغربي، والصحافة بعقلية القطيع تعمّقها.
ارتبطت بروسيا صورة سلبية للرئيس ترمب (كصديق للعدو اللدود روسيا في الحرب الباردة الثانية)، الذي تخوض الصحافة الليبرالية من «نيويورك تايمز» إلى «سي إن إن» مروراً بـ«بي بي سي» و«الغارديان»، معركة مفتوحة معه، ولها الغلبة في تشكيل الرأي العام، في الغرب، لدرجة أن أصدقاء ترمب كحكومة المحافظين، اضطرت في عدد من جلسات مجلس العموم إلى الخروج عن المألوف وانتقاده، تماشياً مع الرأي العام.
وكالة «كمبريدج أناليتيكا»، أحدث الأسلحة في جعبة الصحافة الليبرالية ضد الرئيس ترمب، متهمة «بحصد المعلومات الشخصية» من «فيسبوك»، وتوظيفها في توجيه الدعاية الانتخابية لترجيح كفة ترمب في انتخابات لا تزال «الدولة العميقة» الأميركية تشكك في «نزاهتها وعدالتها».
الظاهرة وظّفتها الحملة بذكاء. قفز تيار «البقائيين»، أي المصالح البريطانية – الأوروبية، على شبكة تربط التيارات والمؤسسات والصور التي ترسخت في العقل الباطن سواء الجماعي، أو لدى الصحافيين والساسة.
تحقيق اشتركت فيه قوى اليسار الصحافية («بي بي سي»، القناة الرابعة البريطانية، و«أوبزرفر»، و«واشنطن بوست») باستدراج وكلاء لوكالة «أناليتيكا»، وطبعاً المونتاج البارع، مع تحقيق استقصائي عن دورٍ للوكالة في انتخابات كينيا والكونغو وسريلانكا. ورغم أنه لا توجد أدلة تصمد للتحقيق القضائي، فإن الصورة لدى الرأي العام سلبية، وارتبط التجسس والعنف في الانتخابات الأفريقية باسم الوكالة.
استدعت لجنة الصحافة والفنون في مجلس العموم ممثلي «فيسبوك» و«كمبريدج أناليتيكا» للتحقيق معهم أسوةً بالكونغرس.
تزامن هذا مع بلوغ الحرب الباردة الثانية ذروتها باتهام بريطانيا مخابرات الرئيس بوتين بتدبير حادثة تسميم عميل روسي سابق لجأ إلى إنجلترا هو وابنته في مدينة سالزبري التاريخية، وتبادُل طرد الدبلوماسيين. أول قوة وقفت مع بريطانيا في المواجهة الدبلوماسية مع روسيا كان الاتحاد الأوروبي كفيدرالية بوزيرة خارجية وسفير تم استدعاؤه من موسكو تضامناً مع لندن). أي الوحدة مع أوروبا قوة ضد روسيا.
تحقيق في «الغارديان» و«أوبزرفر» (لصحافية من زعيمات حملة البقائيين) يتهم حملة «الخروجيين» بتوظيف مجموعة «كمبريدج أناليتيكا» (التي تمت شيطنتها في الوعي الجماعي للرأي العام) لاستهداف ناخبين بحملة الدعاية في أثناء استفتاء الاتحاد الأوروبي بعد الحصول على بياناتهم من «فيسبوك» بعمل غير أخلاقي (لم يتضح بعد ما إذا كان انتهاكاً لقانون الخصوصية).
بدأت مجموعة النواب البقائيين طرح أسئلة في مجلس العموم تشكّك في «نزاهة» حملة الخروجيين، وبالتالي في نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد.
يتزعم دعوة إجراء استفتاء ثانٍ توني بلير الذي قدم معهده للدراسات «علاقة بديلة» للبقاء في الاتحاد الأوروبي.
فن إدارة حملة لا وجود لها رسمياً!