ماك مارغوليس
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

حرب أميركا اللاتينية ضد الفساد ليست مجانية

تمكنت أجهزة مكافحة الفساد في أميركا اللاتينية من توجيه الكثير من الضربات الموجعة لكبار المتهمين بالفساد في السنوات الأخيرة، غير أن الإطاحة بالرئيس البيروفي بيدرو بابلو كوشينسكي تمثل علامة جديدة في تحولات نصف الكرة الغربي ضد كبار الفاسدين.
ولقد نفى الرئيس التنفيذي الأسبق لصحيفة «وول ستريت جورنال» ارتكابه أي مخالفات، زاعماً أنه نفسه كان ضحية «أزمة الحكم» في بيرو. وربما يكون اصطلاح «اللطمة العاجلة» هو أفضل توصيف لما حدث: إذ استفاد خصوم كوشينسكي السياسيون من تورطه المزعوم في فضيحة الفساد المزرية التي تتعلق بشركة «أوديبريخت إس إيه» الإنشائية البرازيلية العملاقة، في الإطاحة به عن منصبه عشية التصويت المحتمل بعزله من المنصب الرئاسي.
وأصبح مصير كوشينسكي الآن بين أيدي المحققين في البيرو، الذين انضموا إلى أقرانهم عبر نصف الكرة الأرضية الآخر في ملاحقة قضايا الفساد والاحتيال في أعلى المناصب الحكومية في بلادهم. وتساهم نزعة الانتقام المحمومة هذه بشكل كبير في تغذية مشاعر الجماهير الساخطة على الفضيحة، بيد أن تأثيرها سيكون طفيفاً فيما يتعلق بالمساوئ والمحن الاقتصادية التي تعاني منها البيرو – وعلى أي حال، فإن الاضطرابات والغموض الكبير الذي تلا تلك الفضيحة قد زاد من سوء الأوضاع في البلاد.
ويجد القلق المتفشي في البيرو الآن صداه في مختلف بلدان القارة: فإلى أي مدى يمكن لمحركات مكافحة الفساد أن تتحرك في المنطقة من دون إلحاق الشلل بالدول وسكانها الذين يطالبون وبشدة بعودة النمو الاقتصادي الذي يستند، إلى حد كبير، إلى الحكومات الفاعلة؟
ولقد اصطدم كوشينسكي نفسه بهذا اللغز المحير حال سعيه لاحتواء الأضرار الناجمة إثر اعتراف شركة الإنشاءات البرازيلية العملاقة بدفع الرشى لمختلف المسؤولين على مدار عشر سنوات كاملة، بهدف تأمين عقود التشييد والبناء البيروفية الكبيرة.
وكان الرئيس كوشينسكي قد أصدر في بداية توليه المنصب عدداً من المراسيم التي تقطع الطريق تماماً على المقاولين المشبوهين في البلاد، غير أن الحملة الحكومية القوية قد أسفرت عن سقوط العشرات من مشروعات الأشغال العامة في هوة النسيان، مع انتشار التحقيقات الخاصة بشركة «أوديبريخت إس إيه» إلى أكثر من 30 شركة بيروفية أخرى. الأمر الذي أدّى إلى سن قانون جديد أكثر مرونة، والذي نُشر في 12 مارس (آذار) من العام الحالي، والذي يسمح للشركات الخاضعة للتحقيقات الحكومية بمواصلة أعمالها؛ مما يمهد الطريق لاستمرار نحو 252 مشروعاً حالياً، بالإضافة إلى 9 مليارات دولار من الاستثمارات المجدولة، وذلك وفقاً إلى «وحدة المعلومات الاقتصادية».
وبالنسبة إلى الكثير من النقاد، فإن المقايضة بين مكافحة الفساد والنمو الاقتصادي هي من المعضلات الزائفة. فإن القضاء على الفساد في رأس السلطة ليس مهماً في تطهير الشؤون العامة في البلاد فحسب، كما يقولون، وإنما يعتبر هو السبيل الوحيد نحو المحافظة على صحة وسلامة التنمية الاقتصادية في البلاد. يقول سيرغيو لازاريني، الخبير في شؤون إدارة المؤسسات لدى كلية إدارة الأعمال في ساو باولو: «عندما ترى الفساد في تراجع مستمر، فلا بد من وجود انعكاس إيجابي لذلك على بيئة المال والأعمال؛ الأمر الذي يؤدي إلى استقرار التوقعات وجلب الاستثمارات».
ومع أن عمليات استئصال الفساد على رأس السلطة تحظى بالتأييد والدعم واسع النطاق – وأي محاولات للحد منها تجد معارضة علنية وصريحة – إلا أن تلك المهام العسيرة ترجع بتكاليف شديدة الوطأة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تلك التي يتجاهلها الجيل التالي من الزعماء على مسؤولياتهم الخاصة.
ولنضرب مثالاً بالبرازيل، موطن شركة «أوديبريخت إس إيه» المذكورة، والمقر الإقليمي لأكبر حملات مكافحة الفساد في نصف الكرة الغربي. ففي غضون أربع سنوات ماضية، أسفرت تحقيقات «كارووش» الكبيرة عن إدانة 188 شخصية، وأدت إلى استعادة 11.7 مليار دولار إلى خزائن الدولة. كما أسفرت كذلك عن إحباط العشرات من مخططات التلاعب المعروفة باسم «الدفع مقابل التخصيص» التي كانت تجري في كواليس مجالس إدارة كبريات شركات المقاولات في البلاد.
ومع خضوع الشركة الكبيرة تلو الشركة الفاسدة تحت رحمة التدقيق والمراجعة، ارتعشت أركان الاقتصاد. وأعلنت الكثير من الشركات التي سقطت في براثن المحققين القانونيين إفلاسها، وتلاشت العقود التي كانت تعتمد عليها في مواصلة أعمالها، وانتهى الأمر بها لمواجهة التداعيات المضطربة والمنهكة لفضائح الفساد. وقال جون رايس، نائب رئيس شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية لوكالة «بلومبيرغ» الإخبارية في عام 2016: «هناك قدر كبير من الشلل الاقتصادي الناجم عن تحقيقات كارووش في البرازيل». وتعتقد مونيكا دي بول، وهي الزميلة البارزة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، أن الآثار المترتبة على قضية كارووش قد عمقت كثيراً من وطأة الركود الاقتصادي التاريخي في البرازيل، واقتطعت ما يصل إلى نقطتين مئويتين من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 2015، وقالت السيدة دي بول: «لقد تعطل قطاع التشييد والبناء في البلاد، وتحاول شركة (بتروبراس) النفطية المحلية التعافي من اضطراباتها الأخيرة، كما تعرضت قطاعات أخرى مهمة إلى ضربات موجعة. وبدا أن عمليات التطهير من الفساد كانت فوضوية بشكل كبير. وعلينا أن نأمل أن تنجح عمليات التطهير الجارية حتى يتمكن الاقتصاد من النمو مرة أخرى».
ومن أجل بلوغ حد النمو الاقتصادي مجدداً، تحتاج الدول التي تحارب الفساد إلى وضع آلية لتحديد الإدانات والمسؤوليات ومحاولة إنقاذ الشركات من القراصنة. ومن بين السبل إلى ذلك هناك صفقات التساهل، والتي تسمح للمحتالين النادمين بالاعتراف بجرائمهم لدى الشركات في مقابل مواجهة العقوبات القانونية الخفيفة.
ومع ذلك، لا تزال مثل هذه الصفقات قيد النظر والاعتبار. إذ يمكن لشروط صفقات التساهل المتغيرة أن تؤدي إلى زيادة المخاطر بالنسبة للشركات المتعثرة – كما قالت مؤسسة «جيه بي مروغان» مؤخراً في مذكرة لأحد العملاء بشأن شركة «أوديبريخت إس إيه» المتعثرة – حتى وإن كانت الصفقات الفاسدة التي تتعلق بالمشغلين الغامضين يمكنها إعاقة عمل التحقيقات الجارية، وإثارة ردود الفعل العارمة لدى الرأي العام المحلي. وفي البرازيل، تبلغ الغرامة القصوى للشركات المتساهلة في طلب أو تلقي الرشى نسبة 20 في المائة من الأرباح السنوية تقريباً. وقال السيد لازاريني: «إنها غرامة تجعل من ارتكاب الجريمة أمراً سائغاً».
ومع تعمق تحقيقات الفساد الجارية، حتى الصفقات الأكثر إنصافاً التي تلقي باللوم والجزاءات بصورة مناسبة قد لا تؤدي إلى رفع المظلة القانونية عن المعاملات في المستقبل. ويقول جويل فيلاسكو، المستشار السياسي في مجموعة «أولبرايت ستونبريدج»: «لقد كنت طرفاً في بعض المحادثات مع أناس يرون أن هناك فرصاً لشراء الأصول في أعقاب الفضائح، لكنهم يحجمون عن ذلك إذا ما كانوا سيتحملون مسؤولية الجرائم السابقة».
ومع استمرار الكشف عن الفضائح، يساور السيد فيلاسكو القلق من أن تتحول حماسة رجال القانون في أميركا اللاتينية إلى ما يشبه مطاردة الساحرات في القرون الوسطى، وقال: «يجب عند مرحلة ما أن ترسم خطاً معيناً تتوقف عنده وتلتزم به. وأعني أنه لا يمكنك أن تتوقع من فرق العمل لديك أن تقضي على آخر نصاب أو محتال في البلاد، بأكثر مما يعني القضاء على الإرهاب في أفغانستان عن طريق مكوث القوات هناك إلى الأبد!».
ويربط بيتر حكيم، من معهد الحوار بين الأميركيتين، بين جهود مكافحة الفساد في أميركا اللاتينية وبين معاهدة السلام في كولومبيا مع المتمردين الماركسيين، إذ كان لزاماً على الحكومة الكولومبية تقديم بعض التنازلات التي لم تعجب الجميع في مقابل إبرام المعاهدة، وقال: «تلك هي الطريقة التي تنتهي بها الحروب الأهلية في أغلب الأحيان».
وربما يعد ذلك من قبل الإسقاطات السياسية، لكن لا يمكن رهن مستقبل المؤسسات والشركات الكبرى بفرق المحققين القانونيين. فقد تكون الشركات الكبرى قد صارت ضحية لقراصنة الاقتصاد والانتهازيين السياسيين، لكن الشركات تملك أيضاً الأدوات اللازمة، والقدرات العقلية، والخبرات الفنية، التي تحتاج إليها الدول للتنمية والتطوير. وقال السيد فيلاسكو: «لا نزال في حاجة إلى الطرق السريعة، والجسور، وآبار النفط، وتملك شركتا (أوديبريخت إس إيه)، و(بتروبراس) الدراية بكيفية تنفيذ هذه المشروعات».
ويملك مواطنو أميركا اللاتينية كل الحق في تشجيع مكافحي الفساد، لكن القضاء على الفساد يعتمد بالأساس على ما هو أكثر من مجرد المحققين القانونيين الحاذقين والقضاة الصارمين. ففي نهاية المطاف، يستند التطهير الحكومي على مجموعة معقدة ومتشعبة من المبادرات التي تتضمن تعزيز القدرات الرقابية والمؤسسات المستقلة، مع الحد من المصالح المكتسبة التي تزدهر وتتفشى في غياب الرقابة والمساءلة.
وفي الأثناء ذاتها، فإن معاوضة الضوابط المتساهلة بالإفراط الرقابي قد يسفر عن نتائج عكسية، وقد يؤدي الخنق المؤسسي للمشروعات الكبرى إلى تشجيع مقدمي العطاءات على مزيد من التلاعب باللوائح والقواعد.
ومن شأن كل ما تقدم أن يُطرح على المائدة خلال الشهر المقبل عندما يجتمع الزعماء الإقليميون في قمة الأميركيتين، وهي القمة التي تحمل عنوان: «الحكم الديمقراطي في مواجهة الفساد». ومن الجدير بالذكر في هذا المقام، أن مكان انعقاد هذه القمة هي البيرو!
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»