عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

حرب «النفط الجديد»

إذا أُتيح لك الاطلاع على كل معلوماتك الشخصية التي تعرفها عنك شركات ومواقع، مثل «فيسبوك» و«واتساب» و«غوغل» و«أمازون» و«آبل»، فسوف تُصعَق بالتأكيد من حجم ما تملكه الشركات الكبرى المهيمنة على عالمنا الرقمي، أو الأجهزة المختصة بجمع وتحليل المعلومات الموجودة في الفضاء الإنترنتي؛ سواء كانت هذه الأجهزة حكومية أو خاصة، شرعية أو من النوع العامل في الظلام. هذه ليست مجرد معلومات عابرة مبعثرة لا قيمة لها، بل «ثروة» وقوة هائلة لمن يتحكم فيها ويوظفها. لذلك يقال اليوم إن المعلومات هي أهم مورد في العصر الرقمي الراهن حتى بات البعض يُطلق عليها اسم «النفط الجديد».
ليست مصادفة أن أكبر خمس شركات في أسواق المال اليوم من حيث قيمتها الورقية السوقية، كلها شركات عملاقة في مجال الثورة الإنترنتية والرقمية، وهي «غوغل» (الشركة المالكة الأم للمجموعة هي «آلفابت»)، و«أمازون»، و«آبل»، و«فيسبوك»، و«مايكروسوفت». وليس غريباً أن مؤسسي هذه الشركات باتوا في مواقع متقدمة في قائمة أغنى أثرياء العالم. فوفقاً لقائمة «فوربس» لأثرياء العالم عام 2018 يأتي جيف بيزوس (54 عاماً) مؤسس «أمازون» في صدارة القائمة بثروة تقدر بنحو 112 مليار دولار، يليه بيل غيتس (62 عاماً) أبرز مؤسسي شركة «مايكروسوفت» بثروة تبلغ 90 مليار دولار، بينما يحل مارك زوكربيرغ (33 عاماً) أحد مؤسسي «فيسبوك» في المرتبة الخامسة بثروة تُقدَّر بنحو 71 مليار دولار. أما عن مجموع ثروات هذه الشركات فحدث ولا حرج، وقس على أن قيمة «فيسبوك» وحدها تجاوزت نصف تريليون دولار. لهذا نرى مارك زوكربيرغ يُستقبل في العواصم المهمة كما يستقبل قادة الدول الكبرى، وتُفتَح له أبواب صناع القرار، كما تُطلَب شهادته أمام البرلمانات، فيمتثل لطلب الكونغرس مثلاً، ويعزف عن قبول طلب البرلمان البريطاني. لم يحظَ بهذه الأهمية لمجرد أنه يمتلك ثروة هائلة، فهناك رجال أعمال مثل وارين بافيت يتفوقون عليه في حجم الثروات، وإنما لأن شركته تتحكم في كَمٍّ هائل من المعلومات عن الناس، وتستطيع التأثير عليهم بمختلف الأشكال، إلى الحد الذي تجري فيه تحقيقات اليوم عن احتمال تأثيرها، ولو بشكل غير مباشر، على الانتخابات الأميركية التي قادت دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، أو على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
من خلال المعلومات التي تتجمع لديها تستطيع هذه الشركات التأثير على الرأي العام وحتى على سلوك الناس وأمزجتهم بطرق مختلفة، سواء فيما يتعلق بالأخبار التي يطلعون عليها، أو السلع التي يشاهدون إعلاناتها على هواتفهم الجوالة أو أجهزة الكومبيوتر التي يستخدمونها في بحثهم عن الأخبار أو السلع، أو مشاهداتهم لمقاطع الفيديو، أو تواصلهم الاجتماعي.
نحن نتطوع بوضع كل المعلومات عنا في هذه المواقع سواء عند التسجيل للاستخدام، أو خلال تواصلنا وتبادلنا للصور والحكايات الشخصية، من مشاركاتنا في المناسبات الخاصة والاجتماعية، إلى نوعية أكلنا في صورنا بالمطاعم وفي الحفلات، أو في أسفارنا. بعد ذلك تتولى الكومبيوترات العملاقة، والمعادلات الرياضية (اللوغاريتمات) تحليل المعلومات لتكوين صورة دقيقة عنا وعن أمزجتنا وهواياتنا ودائرة معارفنا وسلوكنا الاستهلاكي، بل حتى عن آرائنا السياسية. والأخطر من ذلك أنه بتحليل هذه المعلومات تستطيع شركة مثل «فيسبوك» توقُّع سلوك المستخدم في المستقبل، ما إذا كان سيسافر قريباً مثلاً، وإلى أين يمكن أن يتوجَّه، وما الأشياء التي يحبذ شراءها، إلى درجة توقُّع الجهة التي يمكن أن يصوّت لها في أي انتخابات مزمعة.
ومن خلال «حصد» المعلومات، وهو التعبير الذي بات يُستخدَم بين الخبراء، تستطيع «فيسبوك» أو «غوغل» مثلاً بثَّ أخبار أو إعلانات موجَّهة لكل مستخدم يعرفون أنها تروق له وتصادف اهتماماته ورغباته.
فلو قمت مثلاً بالبحث مرة عن سيارة معينة، ستجد أن إعلانات سيارات ستبرز لك على الشاشة عندما تعود لتصفُّح محرك البحث «غوغل»، أو للدخول إلى حسابك في «فيسبوك». ومن خلال قوتها في مجال تملك المعلومات باتت شركتا «غوغل» و«فيسبوك» تستحوذان على سوق الإعلانات الرقمية، كما أن «فيسبوك» باتت تثير اهتمامات الحكومات بعدما استخدمت معلوماتها أو منصتها في بث إعلانات سياسية موجهة، أو أخبار مفبركة بهدف التأثير على الرأي العام والعمليات الانتخابية.
وقد اضطر مارك زوكربيرغ لنشر إعلانات على صفحات كاملة في عدد من الصحف البريطانية والأميركية الكبرى هذا الأسبوع للاعتذار عن «خرق الثقة» الذي حدث بعد الضجة التي أثارتها فضيحة شركة «كامبريدج أناليتيكا»، وهي شركة استشارات سياسية اتهمت باستغلال المعلومات التي «حصدتها» عن أكثر من 50 مليون حساب من مشتركي «فيسبوك» وتوظيفها خلال حملات انتخابات الرئاسة الأميركية الماضية. وتعهد زوكربيرغ في هذه الإعلانات بأن شركته ستبذل كل ما في وسعها لحماية المعلومات الشخصية لمشتركيها، الذين يمثلون عماد ثروتها «الورقية» ومصدر نفوذها.
هناك واقع جديد فرضته ثورة الاتصالات والإنترنت، عماده المعلومات التي أصبحت محور نفوذ هائل، وأداة مهمة في حروب السيطرة على العقول، وتوجيه الرأي العام بكل ما يعنيه ذلك، وما ينطوي عليه من مخاطر.