د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

كيمياء السعادة

يصادف بعد غد (الثلاثاء) اليوم العالمي للسعادة: فكرة تخصيص يوم للسعادة، أو لِنَقُلْ لتثمين قيمة السعادة هدفاً وحالة ودافعاً، هي فكرة رائقة وطريفة وعميقة جداً.
جميل أن يفكر العالم في مناسبة دولية تحتفي بالسعادة، دالاً ومدلولاً، في وقت تتزايد فيه الصراعات والتوترات ويعرف فيه العالم وضعاً معقداً وغامضاً ومربكاً ومرتبكاً مس الأطفال والكبار والرجال والنساء.
لنعترف أولاً بأن مجرد تخصيص جمعية الأمم المتحدة يوماً للسعادة هو بمثابة انتشالنا ولو للحظات قليلة من غبار القلق والتوتر وكثافة الغموض كي نتذكر أن هدف الإنسان العاقل هو أن يبلغ السعادة ولو من بعيد، وأن يعيش حياة سعيدة، وأن أحلامنا وطموحاتنا ما هي في نهاية الأمر إلا مرآة عاكسة لتصورنا للسعادة. بل إن السعادة في أبسط تجلياتها لا نجد مَن أحسن التعبير عنها مثل الشاعر إيليا أبو ماضي عندما قال: «أيُّها الشاكي الليالي إنّما الغبطة فكرة».
ثانياً، يعد اليوم العالمي للسعادة من الأيام الدولية الحديثة جداً، حيث تمّ إقراره في دورة لجنة الأمم المتحدة الـ66 في يونيو (حزيران) عام 2012، وكان أوّل احتفال بأهمية السعي للسعادة عام 2013، وتجاوب الملايين مع هذا اليوم، وتم إطلاق لقب بطل السعادة على الأشخاص الذين قاموا بأدوار عظيمة واستثنائية من أجل إسعاد غيرهم.
بالنسبة إلى منظمة الأمم المتحدة ذكرت أن مبررات تخصيص يوم عالمي للاحتفال بالسعادة تتلخص في تكريس حق الإنسان في أن يكون سعيداً، وأن عالم اليوم بات بحاجة إلى أنموذج اقتصادي جديد، يضمن توفير التنمية والرفاهية المادية والاجتماعية ومقاومة الفقر والمحافظة على البيئة. اللافت في هذا الطرح هو التركيز على المقاربة المادية للسعادة وهي المقاربة المشتركة بين المجتمعات وجميع البشر. فالسعادة بالمعنى العاطفي أو النفسي ليست محل إجماع، في حين أن الأسباب المادية المنتجة للسعادة قد تكون محل توافق إنساني دون أن ننسى أن المادي يتدخل بشكل كبير في تأمين الصحة النفسية للفرد. كما أن الجيد في تركيز الأمم المتحدة على التنمية ومحاربة الفقر والسعي إلى رفاهية الشعوب وحقهم في السعادة هو أننا أمام مسائل قابلة للقياس كمياً، أي أن هذا اليوم ليس تناولاً ميتافيزيقياً للسعادة، بل يعتمد مؤشرات تقيس نسب السعادة عند الشعوب، ومن خلال المعطيات الكمية يصبح الحديث عن السعادة أكثر دقة.
إن دولة البوتان الآسيوية أصغر دولة في العالم مساحةً وحجماً ديموغرافياً التي تسمى بلد السحر والجمال، هي بفضل انتباهها العميق إلى أن السعادة الوطنية هي أهم ناتج قومي للبلاد، قدمت للعالم درساً في السعادة محاوره الحوكمة والتنمية والثقافة. ولمّا كانت السعادة هي الأهم في بوتان فإن الأطفال يتعلمون مفهوم السعادة وهم في المدرسة الابتدائية.
قد يتساءل الكثيرون: ما شأننا نحن البلدان العربية بالسعادة ونحن نعاني ويلات الإرهاب والعنف وغالبية الاقتصاديات متعثرة وقطارات التنمية شبه مشلولة؟
أيُّ صلة لنا بالسعادة خصوصاً أن الأمم المتحدة بنت شروطاً للسعادة بها تتم عملية التقصي عن مؤشرات الفرح والرفاهية؟
من المهم أن نشير إلى أن التحديد المادي للسعادة يستبطن الرمزي والمعنوي من السعادة: فالثقة بالنفس، وتقدير الذات، والقدرة على الإنجاز، وإقامة روابط اجتماعية تضامنية، وبث الطاقة الإيجابية، هي في الوقت نفسه عوامل تحقيق السعادة ودونها نفشل في رفع تحديات مقاومة الفقر وتحقيق الرفاهية والتنمية.
من هذا المنطلق وبالنظر إلى السعادة من ناحية شروطها المادية والقيمية، فإننا نجد أنه من الصعب أن نكون سعداء أو أن تكون طريقنا نحو السعادة معبدة ومريحة. هناك ما يجب الجهاد والنضال والعمل من أجله اقتصادياً وثقافياً حتى نوفر شروط السعادة الثقافية والاقتصادية: لا معنى لتنمية إذا لم تكن شاملة، ولا تنمية شاملة دون تغيير ثقافي واحتفاء ثقافي بالعقل والحرية والنقد والإبداع في حقوله اللامتناهية كافة، ولا سعادة تتحقق فقط بالثورة القيمية الثقافية والفقر ينهش الأجساد والحاجة تكسر نظرة العين.
هكذا تبدو كيمياء السعادة: السعادة في مدلولها الموضوعي لا الذاتي النسبي. السعادة في بعدها الاجتماعي المجتمعي.
السؤال الذي نطرحه بمناسبة احتفال العالم، بعد غد (الثلاثاء)، باليوم العالمي للسعادة: هل الثقافة العربية تُثمّن الفرح والسعادة والغبطة وهذه المشتقات من معاني السعادة؟
أعتقد أن التغيير الثقافي القيمي ومراجعة مسلمات عدة والحفر فيها نبشاً ومساءلةً من شأنه أن يطرح للنظر علاقتنا بالحياة وما التصور العربي الإسلامي للسعادة: هل يمكن التفكير في السعادة في الدنيا وفي الآخرة؟ وهل سعادتنا واحدة؟ وهل هي مؤجّلة؟ وهل السعادة أمرٌ مفكَّر فيه في ثقافتنا ويحظى بالاعتبارية اللازمة أم أنه شأن خاص وذاتي؟
ولكن رغم كل هذه التساؤلات وغيرها فإن السعادة لا تنبت إلا في بيئة دولية تثمّن السلام وتقدر الإنسان وتحفظ كرامته.
وأقوى ما في السعادة هو أنّها ممكنة: فهي تبدأ فكرة وتكبر فعلاً في الفكر والوجدان والواقع الاجتماعي. فكرة تُنقل من جيل إلى آخر وهي خبرة تُتوارَث وبطولة تُكتسب.