سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

القفز فوق درس التاريخ!

إذا بدت الدعوة إلى تنظيم عرض عسكري أميركي، غريبة، من حيث الدوافع التي تقف وراءها، فالموعد الذي جرى تحديده للعرض يبدو أشد غرابة!
وإذا شئنا الدقة قلنا إنه موعد يدعو إلى التأمل والتفكير الطويل، من حيث معانيه المقصودة، ومن حيث رسائله التي يراد لها أن تصل من خلاله!
وقد كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هو الذي دعا وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ومن دون مقدمات، إلى التجهيز لعرض عسكري يُظهر حدود القوة العسكرية المتوفرة لبلاده! وما كاد هو يُطلق الدعوة أول فبراير (شباط) الماضي، حتى تلقفتها الوزارة بسرعة، وبدأت بالفعل خطوات عملية في اتجاه تحقيق رغبة ترمب، وفي اتجاه تنظيم عرض لم يسبق أن طلب رئيس أميركي تنظيمه، لا بالطريقة التي دعا إليها الرئيس، ولا بطبيعة الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه سيد البيت الأبيض من وراء تنظيم العرض!
وفي الثالث من هذا الشهر، أعلنت الوزارة أن موعد العرض تحدد، وأنه في الغالب سيكون في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وأن اختياره في هذا اليوم تحديداً مقصود، لأنه يوم انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وأن العرض لن يكون احتفالاً بالعسكريين الأميركيين الحاليين فقط، ولكنه سيكون احتفاءً بالعسكريين الأميركيين السابقين أيضاً!
واختيار 11 نوفمبر دون غيره من الأيام، وراءه حكمة طبعاً، فهو ليس مجرد اليوم الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، ولكنه اليوم الذي انتصرت فيه الولايات المتحدة في تلك الحرب... صحيح أن حلفاء لها كانوا معها في الحرب وفي النصر، خصوصاً الاتحاد السوفياتي السابق، وفرنسا، وبريطانيا، وصحيح أنه كان اليوم الذي تأكد فيه انتصار هؤلاء الحلفاء على دول المحور، خصوصاً ألمانيا وإيطاليا، غير أنه اليوم الذي بدأت فيه أميركا وجودها الحقيقي في العالم، وفي منطقتنا هذه من بعد العالم!
قبل ذلك اليوم كانت فرنسا موجودة في منطقة الشرق الأوسط، بقوة، وكانت بريطانيا إلى جوارها توجد، وتسود وتسيطر، وتهيمن، وكان الألمان والإيطاليون وغيرهم يزاحمون الفرنسيين والإنجليز، في دوائر الانتشار، وفي مناطق التمدد، وفي مساحات النفوذ!
ولكن هؤلاء كلهم انسحبوا، وتراجعوا، ورحلوا، فيما بعد الحادي عشر من نوفمبر، لتتقدم واشنطن وتملأ الدوائر، والمناطق، والمساحات نفسها!
وكان لها منافس واحد اسمه الاتحاد السوفياتي، الذي ظل يناكف، ويشاكس، ويناور، ويكسب أرضاً جديدة من النفوذ في كل يوم، إلى أن سقط وانهار في نهاية 1991، لتخلو المنطقة ومعها العالم، منذ ذلك العام، للولايات المتحدة تمارس فيها نفوذها بدرجات!
وعندما وجّه بولجانين، رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي، إنذاره الشهير إلى لندن وباريس وتل أبيب، بالكفّ فوراً عن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لم يكن يحب المصريين إلى هذه الدرجة، ولم يكن قد وقع في هوى القاهرة إلى هذا الحد، ولكنه كان فقط يريد أن يقول للإنجليز وللفرنسيين، إن زمانهما في المنطقة قد مضى، وإن بلاده تتقدم لتكون هي صاحبة الزمان الجديد!
وهو الشيء نفسه الذي أراد الجنرال أيزنهاور أن يقوله، عندما طالب من مكتبه في البيت الأبيض الإسرائيليين، بالانسحاب من سيناء على الفور وبغير نقاش!
فهل أراد ترمب من وراء الدعوة، وأرادت وزارة دفاعه من اختيار هذا اليوم على وجه التحديد، أن يقال إن 11 نوفمبر من عام 1945، إذا كان قد شهد الإعلان عن مولد القوة الأميركية، فإن 11 نوفمبر 2018 يعلن استمرارها، وبقاءها، وحيويتها، وجدارتها، وقدرتها على أن تجدد نفسها وتدوم؟!
أظن أن هذا هو الهدف من الدعوة، ومن العرض، ومما سوف يبدو للعالم من العرض، حين يُقام، وحين يكون حياً على الشاشات تعرضه، وعلى الصفحات تقدمه وتشرحه! ولكن... ليس من الممكن أن تنفصل الدعوة إلى العرض، ولا العرض نفسه، عن الحديث عن رجلين اثنين: كيم الحفيد أو كيم الثالث في كوريا الشمالية، وفلاديمير بوتين في روسيا الاتحادية!
فالأول يحلو له من وقت إلى آخر، أن يستعرض صواريخه العابرة للبحار، وأن يعيد تذكير الأميركيين بأنه قادر على إصابة بلادهم في مقتل... وقد استبدت به هذه الرغبة ذات مرة إلى حد أنه نبّه ترمب إلى أنه - أي كيم الحفيد - يجلس دائماً وأمامه أزرار نووية يمكنه بضغطة إصبع على واحد منها، أن يُصوّب صاروخاً، وربما أكثر، إلى مناطق أميركية كبيرة فيدمرها تماماً!
وقد بادله الرئيس الأميركي استعراضاً باستعراض، فقال ما معناه إن الأزرار التي أمامه، من النوع نفسه، أكثر وأشد قدرة على إصابة أهدافها في لمحة من لمحات البصر! وكان الملايين في أنحاء العالم يتابعون الاستعراض، ثم الاستعراض المضاد، وأياديهم على قلوبهم خشية أن يفقد أحد الرجلين أعصابه، فيدفع أبرياء الأرض ثمن ضغطة على زر!
وفي الأول من هذا الشهر وقف بوتين يقدم عرضاً عسكرياً بمفرده، فراح في خطاب أمام البرلمان يتحدث عن أسلحة لديه لا تُقهر، من نوعية صواريخ «كروز» ذات المدى غير المحدود، التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والغواصات المصغرة ذات الدفع النووي، والسلاح الذي يعمل بالليزر، وصواريخ المحركات النووية... والكثير من هذه الأسماء التي يكفي ذكرها، لا فعلها، لإثارة الرعب في نفوس الكثيرين!
وقد بدا الأمر كأن دعوة ترمب إلى تنظيم عرض عسكري، كانت رد فعل على عبث الحفيد الكوري الشمالي بأزرار، ليست من النوع الذي يمكن العبث به... ثم بدا خطاب بوتين كأنه هو الآخر رد فعل على دعوة الرئيس الأميركي إلى تنظيم العرض العسكري!
وكلاهما (كيم الحفيد والرئيس بوتين) قفز عن قصد، أو عن غير قصد، فوق درس التاريخ الذي يقول إن الدولة التي تراهن على القوة العسكرية وحدها ليست قادرة على الصمود إلى آخر الطريق ما لم يكن اقتصادها قادراً على أن يُسعفها!
وقد كان درس انهيار الاتحاد السوفياتي المفاجئ هو الدرس الأقرب والأبلغ والأقدر على تجسيد هذا المعنى من دون كلام كثير!
ومع درس التاريخ قفز الثلاثة معاً، لا كيم الثالث وبوتين وحدهما، فوق واقع يقول: إن العالم أحوج ما يكون إلى إظهار وجوه العدالة في أنحائه، منه إلى التنابز بالأزرار!