علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

مرافعة عن حفظ النصوص

أوردت السطور الأولى من ثلاث فقرات من كتاب الدكتور أحمد العيسى «إصلاح التعليم...». للتدليل على وقوعه في الارتباك والتردد، والآن أناقش ما جاء في تلك الفقرات.
قال في الفقرة الأولى: «إن الاهتمام بالعلوم الدينية في نظام التعليم الرسمي يؤكد حقيقة استحواذ هذه العلوم على نصيب الأسد في أوليات النظام التعليمي السعودي، على الرغم من محاولات التطوير بإعطاء العلوم العقلية والأساسية بعض الأهمية، بحيث تجعل مخرجات التعليم قادرة على اكتساب التوازن بين علوم الدين وعلوم الدنيا، التي تشكل وسيلة مهمة للرقي الحضاري والتنمية والازدهار الاقتصادي والنهضة الاجتماعية».
إن كنت غير سعودي ولم تتلقَ تعليمك في السعودية، وليس لديك معلومات كافية عن طبيعة التعليم العام في السعودية، ستفهم من هذه الفقرة أن هذا التعليم قائم على تعليم ديني، ثم جرت محاولات لإدخال علوم، كالفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية والرياضيات بنسبة معينة في البرنامج الدراسي!
وخشية الوقوع في فهم خاطئ كهذا، وبخاصة أن الكتاب مثلما هو موجّه للقارئ السعودي ولصاحب القرار في السعودية، هو موجه للقارئ العربي والمهتم بموضوع التعليم في البلدان العربية، بدلالة أنه لم يطبعه في دار نشر سعودية، وإنما طبعه في دار نشر عربية شهيرة، هي «دار الساقي»، فإني سأوضح ماذا يريد أن يقول في تلك الفقرة؛ هو يقصد بـ«محاولات التطوير» وبـ«بعض الأهمية» زيادة نِصاب تدريس العلوم الطبيعية والرياضيات في الجدول الأسبوعي، وتجديد محتواها، وتحسين طريقة عرضها. والعلوم العقلية يقصد بها تلك العلوم. فهو ملتزم بالتصنيف الإسلامي القروسطي للعلوم الذي يصنف العلوم إلى علوم نقلية وضعية لا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، وإلى علوم فلسفية أو حكمية يكون للعقل دور كبير فيها.
ومما لم يقله ولم يذكره، أن الآباء الذين لم يتأثروا بهبة فكر الصحوة الإسلامية كانوا متبرمين من كم المواد الدينية الضخم الذي يدرسه أبناؤهم وبناتهم، ومن استلحاق المواد غير الدينية برؤية دينية إخوانية، والذي بدأ بالتدريج وبالتصاعد منذ سنة 1980م. وبعيد حرب الخليج الثانية عبّر البعض في الصحف عن مطالباتهم بتقليص حجم المواد الدينية، وكان الظرف السياسي مواتياً لإعلان ذلك بعد أن بان للحكومة الخطر السياسي الناجم عن فكر الصحوة على أمنها الوطني.
ونظراً إلى أن وزارة التربية والتعليم مسيطَر عليها من قبل أصحاب التيار الديني، إخوان وسروريين وسلفيين، فإن زيادة حصص المواد العلمية أتت على حساب تقليص مواد اللغة العربية، وعلى حساب تقليص التاريخ والجغرافيا، وبقيت المواد الدينية على ما هي عليه بحجمها الضخم.
كفة الميزان في التعليم العام في السعودية ترجح لصالح علوم الدين وليس لصالح علوم الدنيا، فليس ثمة توازن بينهما، كما قال. فما يأخذه الطالب في التعليم العام، يؤهله أن يكون رجل دين في المستقبل، أو أن يكون مختصاً بالعلوم الدينية في دراسته الجامعية وما بعد الجامعية. والتوازن بين علوم الدين وعلوم الدنيا ليس – بالضرورة – الوسيلة المهمة للرقي الحضاري والتنمية والازدهار الاقتصادي والنهضة الاجتماعية. فهذه الأشياء حصلت وتحصل في تاريخ العالم بمعزل عن العلوم الدينية، وأحياناً حصلت وتحصل على الرغم عنها وعن أهلها. وقوله هذا هو في رأيي من ضمن الكلام المرسل في مادة الثقافة الإسلامية التي يريد إصلاح شأنها!
قال في الفقرة الثانية: «كما أن تدريس تلك المواد – يقصد المقررات الشرعية حسب تعبيره – يعتمد بشكل كبير على الحفظ والتلقين والتكرار، والتركيز على الأحكام في العقيدة والفروض والتشريع، وبيان الحلال والحرام بشكل قاطع، مما يفقد تلك المناهج التأثير العميق في نفوس التلاميذ من خلال غرس التربية الإيمانية، لتؤثر في سلوكياتهم، وتهذب من أخلاقهم وتحسن من تعاملهم مع الآخرين».
اللافت، أنه نهى عن الحفظ والتكرار في تدريس المواد، والمواد الدينية بخاصة، وأعاد هذا النهي مراراً في كتابه، فتأمل! وللرد على إدانته أسلوب الحفظ على إطلاقه نستعين بما جاء في مقال العلامة محمود محمد الطناحي «الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية»، المنشور في مجلة «الهلال» في شهر فبراير (شباط) سنة 1991م.
«يشيع في أيامنا هذه كلام عجيب، يبغض إلى طالب العربية الحفظ ويزهد فيه، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل الحفظ مقابل الفهم، وأن الطالب الذي يحفظ (صمّام) وغير قادر على الفهم والاستيعاب....»..
«هذا وقد وقعت على نص خطير جداً، هو خير رد وأوفاه على هؤلاء الذين يشترطون للحفظ: الفهم، ويقولون: لا تطلبوا من الصبي حفظ ما لا يفهم، فإن هذا غير مجدٍ في العملية التعليمية. يقول أبو الفتح عثمان بن جني: (قال لنا أبو علي – الفارسي – يوماً قال لنا أبو بكر – ابن السراج -: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه).
وهذا كلام صحيح، يصدّقه الواقع وتؤكده التجربة؛ فإن الإلحاح بالحفظ الدائم المستمر مما يمهد للفهم لا محالة. وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني لبلادهم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئاً عن معاني مفرداته فضلاً عن تراكيبه، لكنهم بمرور الأيام يدركون ويفهمون. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى في اكتساب المعارف وإدراكها.
ونحن الذين حفظنا القرآن صغاراً نعرف هذا من أنفسنا، فما زلنا نذكر ألفاظ القرآن وتراكيبه الغريبة علينا في مطالع أيامنا، ثم إضاءة معانيه في نفوسنا بعد ذلك بالتدريج، وإن كنا لا ندرك بالضبط متى تم هذا، كما لا يدرك الناظر في السماء انسلاخ النهار من الليل إلا حين يغشاه نوره ويغمره سناه».
«... أما الآن فتكاد خطب الجمعة – ولا سيما على ألسنة الشبان المتحمسين – تتحول إلى ثرثرة وكلام عام مبهم عن (مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم) و(الإسلام في خطر) و(الإسلام هو الحل). وهذا وهذان مما يصرف عن الاستشهاد بالقرآن والحديث وكلام العرب، وإذا أتاك شيء من ذلك فهو يأتيك في معظمه ملحوناً ومزالاً عن جهته.
وكل هذا إنما جاء من مقولات مضللة، وهي أن خطب الجمعة لا بد أن تتفاعل مع الأحداث المعاصرة، وأن تشارك في صنع القرار... إلى آخر ما تعرف». ثم يختم كلامه بالقول متهكماً: «ليتنا نعود إلى خطبة الجمعة المكتوبة على الورق الأصفر، والتي كان الخطيب يدعو في آخرها للسلطان بالنصر – ونستغفر الله مما سخرنا من هذه الخطب – فمن خلال هذه الخطب المكتوبة حفظنا كثيراً من النصوص، وضبطنا كثيراً من أبنية الأسماء والأفعال. وربنا المستعان على ما يصفون».
الشبان المتحمسون في كلامه السالف هم الإسلاميون. وقد لاحظت أن شيوخ التراث العربي والإسلامي يتحاشون نقد الإسلاميين، وإن اضطروا إلى ذلك، فهم يترفقون بهم ويتلطفون معهم، رغم أنهم لا يرتاحون إلى طرائقهم في الدعوة ولا إلى نظرتهم إلى التراث، ولا يقرأون مقولاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية الإطلاقية، ولا فهمهم المحدث إلى الإسلام.
يقول علامتنا عنهم في الجزء الثاني من مقاله «النحو العربي... والحمى المستباح» المنشور في مجلة «الهلال»، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1996م. «ثم أزيدك عجباً أيها القارئ الكريم – ومن يعش ير عجباً، كما قالت العرب – إن النحو العربي الآن يهاجم أيضاً من بعض الإسلاميين الذين يصرخون ليل نهار، دفاعاً عن الإسلام وخوفاً عليه، ولكن كيف يهاجم هؤلاء النحو؟ سمعت كبيراً منهم في محفل عام يقول: إن المسلمين الأوائل شغلوا بإعراب القرآن الكريم عن تطبيقه، وقد غفل هذا الغبي – نستغفر الله من فاحش القول – عن أن كثيراً من كلام ربنا عز وجل لا يفهم ولا يطبق إلا إذا عرف وجهه النحوي الصحيح، والأمثلة من ذلك كثيرة...».
شدته في نقد ذلك الكبير في الإسلاميين، لعلها تعتبر استثناءً في الملحوظة العامة التي أزجيناها. وهذه الشدة اقتضاها أن ما سمعه منه استوقد غضبه وأضرم غيظه، ورغم ذلك - لنلحظ - فإنه لم يسمه رأفة به وإشفاقاً عليه.
الدكتور أحمد العيسى في الفقرة السابقة، وفي فقرات أخرى متكررة من فصول كتابه، يضع الحفظ بصورة متعارضة مع الفهم والاستيعاب. مما يوهم أن الذي لا تتوفر فيه مهارة الحفظ، هو – بالضرورة – يفهم ويستوعب. ومما خبرناه، هناك من لا يحفظ ولا يفهم أو هو – على الأقل – عسير الفهم.
وللحديث بقية.