هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

هل سينتهي «القرن الأميركي» في سوريا؟

إلى أي شخص يظن أن خفض الحملة المستعرة ضد تنظيم داعش الإرهابي سوف يؤدي إلى انحسار الحرب الأهلية المفزعة في سوريا، فإن عناوين الأخبار الرئيسية خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت بمثابة تذكرة مروعة بالواقع المرير. وبعيداً عن الانحسار أو التراجع، فإن الصراع السوري يزداد زخماً واشتعالاً وكثافة، عبر الهجمات الوحشية من جانب النظام السوري على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة بالقرب من العاصمة دمشق، والمواجهة الدموية وحيدة الجانب بين القوة الجوية الأميركية والروس.
وتحاول هذه الأحداث أكثر من مجرد إثبات أن الصراع السوري لا يزال يجسد أكثر الكوارث الإنسانية ترويعاً حتى الآن. والأهم من ذلك أن سوريا تعتبر همزة الوصل بين الاتجاهات المسببة لزعزعة الاستقرار، التي تعصف بالنظام العالمي بأسره نحو الأزمة.
لقد أقيم هذا النظام العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكنه بلغ حد الازدهار والطموح الكامل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. واتسمت حقبة ما بعد الحرب الباردة بالآمال الواسعة بأن الديمقراطية هيمنت فعلياً على المسرح العالمي. لكن، وبعد مضي ثلاثة عقود تقريباً، أفسح التفاؤل الكبير لهذه الأيام الخوالي الطريق أمام حفنة من الاتجاهات الأكثر إظلاماً، وكلها تعمل الآن داخل المستنقع السوري الآسن.
ولنبدأ بما هو واضح: إن سوريا تجسد الهجوم الضاري على فكرة التقدم الأخلاقي ذاتها، ولكنها ليست بمفردها في ذلك. ومع ذلك، فإن سوريا هي البقعة التي تشهد تقدماً ملحوظاً في ذلك التآكل الذي ينبئ بنتائج شديدة الفظاعة والترويع، إذ يواصل النظام السوري استخدام حصار التجويع والبراميل المتفجرة والأسلحة المحرمة دولياً ضد السكان المدنيين العزل، مما يؤكد بصورة أكثر إيلاماً أن المكاسب الأخلاقية التي يبدو أن العالم قد حازها هي في تراجع مستمر. ولم تكن هناك استجابة لهذه التحديات من إدارة الرئيس السابق أوباما، ولا من قبل إدارة الرئيس الحالي ترمب، وتراجعها الدبلوماسي عن الخوض في خضم هذا الصراع. كما تكشف الحرب الأهلية السورية عن سمة أخرى مثيرة للقلق، تتعلق بالسياسات العالمية الراهنة، ألا وهي عودة الصراع الآيديولوجي. وهذا لا يعني بحال أن الحرب الأهلية هي حالة صدام بين الاستبدادية الراسخة والديمقراطية الطامحة، حيث إن كثيراً من السوريين الذين بدأوا الاحتجاجات في عامي 2011 و2012، كانوا يرغبون في الانتقال إلى نظام أكثر تعددية، ولكن أغلب هؤلاء المعتدلين لقوا حتفهم الآن، أو تطرفت آراؤهم.
ورغم ما تقدم، فإن الصراع السوري يعكس الانبعاث السلطوي واسع النطاق عبر الأحداث الجارية. ويجسد الرئيس السوري بشار الأسد أكثر الأمثلة الواقعية وحشية وفظاعة.
علاوة على ذلك، تظهر الحرب كيف تقود الاختلافات الآيديولوجية، مرة أخرى، دفة السياسات العالمية. فلقد أصرت أغلب الديمقراطيات الغربية أنه لا بد لأعمال القتل أن تتوقف، وأنه لا بد من رحيل بشار الأسد. ومع ذلك، فإن الدول الاستبدادية الرائدة في العالم، رفضت تماماً فكرة تغيير النظام التي تفرضها القوى الأجنبية، وقدمت أشكالاً مختلفة من المساعدات، بغية المحافظة على الرئيس المستبد في السلطة.
وفي الأثناء ذاتها، عادت إلى الظهور مرة أخرى المنافسات الجيوسياسية المكثفة. وهنا، كذلك، تعتبر سوريا هي نقطة الانطلاق الأولى؛ تناور كل من إيران وإسرائيل سعياً وراء المكاسب، في جزء لا يتجزأ من صراعهما الإقليمي الأوسع نطاقاً. والأمر اللافت للنظر هو أن سوريا تحولت إلى حلبة لتجدد التنافسات الكبرى بين القوى العظمى في الولايات المتحدة وروسيا. ولا يختلف الخصوم السابقون والحاليون حول مصير بشار الأسد، بل إنهم يستخدمون قواهم العسكرية في اجتزاء مجالات النفوذ التنافسية.
وروسيا، على وجه الخصوص، تستخدم سوريا ميداناً لاختبار نظم الأسلحة المتطورة، وتكتيكات الحرب المختلطة، التي قد تستخدمها في صراع مستقبلي ضد الغرب، بالإضافة إلى ترسيخ قدمها كلاعب مؤثر ونافذ في الشؤون الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»