روبرت كابلان
كاتب من خدمة «نيويورك تايمز»
TT

الحاجة إلى التشاؤم البناء

يجب أن نذكِّر أنفسنا بأن الصحافة الموضوعية والمهنية - الساعية وراء تحقيق توازن بين وجهات النظر المعتبرة - في إطار عصر الطباعة والآلة الكاتبة، تقنية أكثر لطفاً وأقل طواعية بكثير لأغراض التزوير والتحريف مقارنةً بما عليه الحال في عصرنا الحالي.
ربما يكون عصر التقنيات الرقمية والفيديو قد بدأ في النصف الأخير من القرن الـ20، لكننا عاينّا تأثيراته الدراماتيكية على المشهد السياسي خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. من العادة، تمر فترات خمول طويلة بين ظهور اختراع تكنولوجي ومعاينة تداعياته السياسية - العسكرية. تجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم أن ما تُعرف بـ«الثورة الصناعية الثانية» بدأت منتصف القرن الـ19، فإننا لم نعاين تأثيراتها على الحرب حتى عام 1914.
ومن المستحيل تخيّل الرئيس ترمب وتدويناته المكررة التي تجوب الأرجاء في دقائق معدودة في عصر آخر بخلاف عصر التقنيات الرقمية والفيديو. ومن المستحيل تخيل حدوث حالة الاستقطاب السياسي التي نعايشها اليوم في عصر آخر غير عصر الإنترنت، والذي يدفع الناس باتجاه وجهات نظر متطرفة تسعى لتأكيد تحيزاتهم المسبقة. ومن المستحيل تخيل درجة وكثافة التلاعب العاطفي والشائعات الكاذبة والمبالغات واغتيال الشخصيات التي يعانيها الحوار العام لدينا فيما عدا في إطار هذا العصر التكنولوجي الذي بدأ لتوّه.
الملاحَظ أن التكنولوجيا الرقمية والفيديو، ولأنها أداة طيّعة أمام جهود التلاعب، فإنها في جوهرها قادرة على فرض سيطرتها. ودعُونا نتذكر كيف أن صانعي الأفلام العظماء في القرن الـ20 تمكنوا من سلب عقولنا لساعات قلائل من خلال طرح تجربة جديدة على الجماهير لم يسبق لأجيال سابقة أن عرفتها. ومع أن المسرح ربما يكون موغلاً في القدم حتى عصر اليونان القديم، فإن تكنولوجيا صناعة الأفلام شكّلت قوة جديدة وقوية أعادت تشكيل التجربة المسرحية. علاوة على ذلك، فإن التجربة الجديدة جاءت داخل فترة زمنية محدودة، يعود المرء بعدها إلى عالمه الواقعي.
في القرن الواحد والعشرين، ربما يملك الحكام الاستبداديون قدرة مكافئة لتلك التي حظي بها مخرجو الأفلام، لكن عروضهم تظل مستمرة دونما توقف. أما بالنسبة إلى الحرب، فإنها ستدور على نحو متزايد حول تقسيم صفوف الشعوب المعادية وتحطيم روحها المعنوية عبر حملات من المعلومات المضللة لا تزال التكنيكات التي تعتمد عليها في طور التشكل.
من جانبهم، يعكف الصينيون حالياً، بمعاونة تكنولوجيا البيانات الكبرى، على محاولة اقتفاء أثر عمليات البحث عبر شبكة الإنترنت التي يجريها المواطنون، ثم تحديد من يتعين وضعه قيد المراقبة على نحو خاص. الحقيقة أنه إذا علمت حكومة أو شركة ما وجهة وتسلسل عمليات البحث التي تجريها عبر الإنترنت، فهذا يعني أنها أصبحت داخل ذهنك فعلياً. ويحمل هذا الأمر في طياته إمكانات مخيفة ومساحة لا حدود لها أمام إجراءات القمع. وبذلك نجد أن العصر الرقمي الذي جرى الترويج له بادئ الأمر باعتباره أداة تمكين، من الممكن أن يتحول إلى التهديد الأكبر أمام حرية التعبير والديمقراطية على مر عصور التاريخ. في الواقع، إن فكرة الانتشار الواسع لشيء ما تشكل تعبيراً عن العامة وليس الفرد. كما تعزز حقيقة أن «غوغل» يتولى ترتيب نتائج البحث من حيث عدد المواقع الأخرى المرتبطة بالأمر، التفكير الجماعي، وليس الفردية. الحقيقة أن مجمل منطق الشبكة يعمل نحو الشعبية، وليس الجودة، وبالتأكيد ليس نحو الحقيقة.
لم يحدث من قبل قط أن اضطررنا إلى القتال من أجل الديمقراطية والحقوق الفردية بتلك الضراوة التي نعاينها اليوم في هذا العصر التكنولوجي المظلم. ويجب أن نعي أن القتال من أجل الديمقراطية يكافئ القتال من أجل الموضوعية، والتي تقع في قلب الصحافة المهنية - فكرة جرى إرساء أسسها في عصر الطباعة والآلة الكاتبة، عندما كانت الأفلام وحدها المنتج الزائف.
من ناحية أخرى، فإن السبيل الأمثل لتجنب وقوع مأساةٍ ما يكمن في التفكير على نحو مأساوي. ويعني ذلك تعلم كيفية التفكير مثل الطغاة الذين يُغذَّون وتقوى شوكتهم عبر المعلومات المضللة. عبر هذا السبيل فقط سيصبح بمقدورنا حماية أنفسنا تجاه أخطار محددة تنطوي عليها التجربة الرقمية. في الواقع، حمل رواد «وادي السيليكون» بداخلهم تفاؤلاً كبيراً بإيمانهم بهدف ربط مختلف جنبات العالم. بيد أن هذا الربط والاندماج تحديداً هو ما يمد أعداءنا الاستبداديين بالقدرة على اختراق أنظمتنا الديمقراطية. أما المستقبل فسوف تسوده حروب اندماج وربط لا حروب انفصال جغرافي. وعليه، فإن ثمة حاجة اليوم إلى التحلي بتشاؤم بنّاء. أما أيام البراءة التي كان الزيف فيها مقتصراً على شاشات دور العرض فقد ولّت وأصبحت جزءاً من الماضي.

* خدمة «واشنطن بوست»