سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

طوكيو تحترق: النابالم

يجري صف أجهزة «م - 69» في عناقيد عددها ثمانية وثلاثون، ثم تحمل داخل أغلفة ذات زعانف، ويجري إسقاطها من الطائرة. تنفتح الأغلفة آلياً على علو 200 قدم من سطح الأرض، ما يسمح بتدفق القنابل فتتساقط على الأرض منفصلة. لا يحدث أي شيء للوهلة الأولى، ولكن بعد ثلاث ثوان، يحدث امتزاج متزامن يطلق شحنة فوسفورية بيضاء ما يخرج النابالم من الأنابيب ذات الثلاث إنشات. بعد ذلك ينتشر ببطء حريق شامل يطال الثياب والشعر والجلد ويخترق العظم مباشرة.
في وسع «م - 69» أن يبدأ حريقاً واسعاً. وفي قدرة طن واحد من «م - 69» أن يحدث دماراً شاملاً. في الصباح الباكر من 10 مارس (آذار) 1945. أسقطت قاذفات «ب - 29» الأميركية ألفي طن من قنابل النابالم على طوكيو.
«نجحت مقامرة لوماي. إذ إن قلة فقط من الطيارين اليابانيين كانوا في انتظار غزاة الجو أولئك، ما ترك قاذفات (ب – 29) تحلّق بحرية تامة فتصيب أهدافها بدقة بالغة. كان الكثير من اليابانيين يجهلون أن الأرمادا الضخمة تلك هي من دون المدافع الرشاشة التي قد تُسقط طائراتهم. كذلك لعبت الرياح القوية التي كانت تهب على المنطقة لمصلحة الأميركيين، فأعطت طائراتهم غطاء غير متوقع بتشويشها على إشارة الراديو ووسائل الاتصال اليابانية. فقد أمكن للبحرية اليابانية الإمبراطورية أن ترصد الطائرات المهاجمة قبل ألف ميل من وصولها لأهدافها، إلا أن الرياح العاتية وسوء التواصل بين البحرية وجيش البرّ جعلا تحذيراتها لا تصل إلى القوى اليابانية المرابطة تلك الليلة في سهول كانتو خارج العاصمة».
«ابتلع الحريق ستة عشر ميلاً مربعاً من طوكيو. تحولت منطقة (غايشا) بأكملها إلى رماد: دمّرت المستشفيات والمنازل والمعابد ومحطات القطار ومستودعات الحافلات والأديرة والمسارح ومراكز الإطفاء وأماكن إيواء العمال والمدارس. ومن ردهات القصر الإمبراطوري الذي نجا من إعصار النار، وقد تقصد الأميركيون عدم قصفه، كان الإمبراطور هيرو هيتو يرى في الأفق سحابة حمراء حوّلت ليل المدينة الدامس إلى نهار».
عَلق الكثير من السكان بين جدران اللهيب، فاحترقوا هم أيضا مع ما كان يحترق من حولهم. كان الحطام يتطاير عشوائياً في الهواء فيصيب من المدنيين ويتسبب بقتل آخرين. قنوات المياه في المدينة كانت تغلي، فيما سقطت أجساد قتلى في الأنهار الجليدية. وجثث متفحمة لا تزال تشتعل ببطء بفعل زيوت الأجساد الميتة.
أصابت حرارة الحرائق الشديدة من بقي حياً أيضاً فأحرقت الوجوه وأصابع الأيدي والأقدام. كانت الجلود كما لو فصلت عن الأجساد التي بدت كأنها مجرد تماثيل معلقة.
إلى اللقاء...