نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

ما وراء الازدهار الاقتصادي الأميركي؟

يمكننا الآن أن نقول بمنتهى الثقة إن الاقتصاد الأميركي الآن يمر بمرحلة ازدهار. ذلك بحسب كبار رجال وقادة الأعمال، وبحسب ما أورده «الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة» الذي أشار إلى إجراءات تنم على قدر من التفاؤل في مجال الأعمال أكثر من أي وقت مضي.
ورغم أن تلك الإجراءات لم تعكسها بيانات محسوسة حتى الآن، فإن الأرقام المتزايدة تُعد في حد ذاتها مؤشراً جيداً. فبوصفها مؤشراً لإجمالي الناتج القومي، فإن الاستثمارات التجارية وصلت إلى أعلى معدلاتها منذ الأزمة المالية العالمية، في الوقت الذي وصلت فيه البطالة إلى أدنى معدلاتها، مثلما كان الحال في فترة الازدهار في منتصف الثمانينات.
بمعنى آخر، دعونا نتوقف عن النظر إلى هذا الأمر باعتباره تعافياً، وأن ما نمر به فترة ازدهار. لكن بالتأكيد فإن كل هذا يعد أخباراً سارة بالنسبة للرئيس دونالد ترمب لأن إعادة انتخابه في 2020 ستتزامن مع فترة رخاء اقتصادي، على الرغم من أن سياسات الرئيس التي تنعكس على الاقتصاد كلها تثير الشكوك.
لكن ثمة مؤشراً اقتصادياً مهماً لا يزال ضعيفاً ألا وهو الأجور. فارتفاع قيمة الدولار يعد أمراً إيجابياً في حد ذاته، حيث ارتفع في يناير (كانون الثاني) الماضي سعر ساعة العمل بواقع 2.9 في المائة بالمقارنة بالعام الماضي، بيد أن السعر الاستهلاكي ارتفع بواقع 0.8 في المائة، أي أقل من نصف معدل النمو الفعلي للاقتصاد الكلي.
في غضون ذلك، أظهر مسح أجراه «الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة» أن 31 في المائة من مديري الأعمال قد رفعوا من أجور عمالهم، لكن هذا الإجراء لم يجر تعديله بحيث لا يتسبب في حدوث تضخم. ولأن حدوث التضخم أمر إيجابي في أغلب الأعوام، فإن متوسط الأجور يرتفع كل عام، وإن كان ذلك لا يعني أن العمال يحصلون على المزيد من القوة الشرائية.
وفيما يخص زيادة الأجور، لم يكن عام 2017 عاماً جيداً بكل المقاييس، وبالنسبة للوظائف غير الإنتاجية، كانت الأجور منخفضة بشكل استثنائي. وكان عام 2015 هو الأعلى من حيث الأجور بفضل تراجع أسعار النفط، وهو ما أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في الوقت الذي ارتفعت فيه الأجور بالدولار الأميركي. والآن فقد عاد الدولار إلى معدلاته المعتادة، لكن الأجور بالدولار لا ترتفع بوتيرة أسرع، مما يعني أن العمال باتوا يحصلون على مكاسب أقل. وقد تراجع متوسط الأجور للعمال الأميركيين بنهاية عام 2017 بعد أن وصل إلى مرحلة استقرار نسبي بداية العام.
ماذا يحدث؟ لماذا لم يؤد انخفاض مستوى البطالة، وازدهار الاستثمار، واتخاذ إجراءات تعكس تنامي الثقة إلى ارتفاع سريع في النمو؟ في الحقيقة، تبين أساسيات علم الاقتصاد التي يدرسها طلاب الجامعة في السنوات الأولى أنه كلما ضاق الحال في الأسواق، ارتفعت الأجور الفعلية. لكن لماذا لا تعمل النظرية بهذا الشكل؟
أحد الأسباب الممكنة هو أن قوة أصحاب الأعمال قد أخذت في التنامي، حيث أظهر بحث حديث أجراه خبراء الاقتصاد جوزي أزار، وأيانا مارينسيو، ومارشال ستينبون، أن زيادة التركيز في سوق العمل - بمعنى انخفاض عدد الموظفين الذين يتنافسون على العمل - أدى إلى تقليص الأجور، وهي النتيجة نفسها التي خلص إليها بحث حديث أجراه خبراء الاقتصاد إفريم بنمليتش، ونياتي برغمان، وهيسوب كيم.
وتقول نظرية الاقتصاد إنه عندما لا يكون هناك سوى عدد قليل من الموظفين، فإن نموذج العرض والطلب ينهار، وتشرع الشركات الكبرى في تخفيض الأجور إلى مستوى أقل من ذلك الذي تحتاجه الأسواق التنافسية. وتتوقع تلك النظرية أيضاً أن قوانين الحد الأدنى من الأجور لن تكون سبباً في البطالة، وهو ما توصلت إليه العديد من الأبحاث الآن.
السبب المحتمل الثاني هو أن تراجع مستوى البطالة يجعل العمال أقل إنتاجاً. فعندما تظهر في الأفق بوادر تسريح العمالة، يتجه الموظفون إلى العمل بجد أكبر للمحافظة على وظائفهم، وعندما يصل الاقتصاد إلى مرحلة التوظيف الكامل، يزول الضغط. في الحقيقة، فإن إنتاجية العامل لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأجور، لكن ذلك لا ينفي أن لها بعض التأثير.
السبب المحتمل الثالث هو الحذر بعد فترة ركود اقتصادي طويلة وعميقة، حيث تتراجع الأجور بدرجة كبيرة. ولذلك يدرك أصحاب الأعمال أنه لو أنهم منحوا العاملين زيادة في الأجور، فإنهم لن يتمكنوا من تقليص الرواتب مجدداً في حال لم تستمر فترة الازدهار طويلا. ولذلك، ونتيجة لخبرة عقد كامل من الضياع، قد تعمد الشركات إلى عدم زيادة الأجور إلى أن يتيقنوا من أن وقت الرخاء قد عاد بالفعل وأنه سيدوم.
ما من شك في أن خبراء الاقتصاد يعملون حاليا على اكتشاف ما يحدث، لكن هناك شيئاً مؤكداً وهو أنه في حال لم يترجم النمو الاقتصادي إلى زيادة في الأجور لغالبية العاملين الأميركيين، لن يكون الازدهار الاقتصادي أكثر من فقاعة خادعة للكثيرين منهم.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»