مصطفى أحمد النعمان
سفير وكاتب يمنّيّ عمل وكيلا لوزارة الخارجيّة
TT

الشأن العام بين المسؤولية القانونية والمسؤولية الأخلاقية

طالعتنا الأخبار خلال الأشهر الماضية بأن عددا من كبار المسؤولين في أقطار آسيوية لم يترددوا عن تقديم استقالاتهم لإخفاقهم في القيام بواجباتهم الأخلاقية تجاه عدد من الكوارث الطبيعية أو الناجمة عن أخطاء بشرية لا ترتبط بتقصير منهم أو إغفال رقابة مباشرة، كما سمعنا عن اعتذارات قدمها مسؤولون عن معاناة أو إخلال عن تأدية الواجب المناط ليس بهم فحسب، وإنما بموظفيهم، كذلك قرأنا عن مسؤولين تحملوا أخطاء كانت حادثة في المؤسسات التي يديرونها قبل توليهم، ولكنهم أخفقوا عن معالجتها، وأخيرا شاهدنا رؤساء شركات كبرى يعتذرون عن إخفاقات أسلافهم ويتحملون معهم مسؤوليتها.
المقارنة بين ما يحدث في تلك الأقطار وما يجري عندنا تثير كثيرا من الأسئلة عن أسباب ظاهرة السلبية التي تسري في مؤسساتنا والتهرب من تحمل تبعات الأخطاء، والمثير للشفقة هو أن توجيه أي مواطن لأصابع الاتهام والعتاب الرقيق إلى المسؤولين الذين يقصرون، يقابله سيل من المتزلفين والمنافقين المتبرعين يتولون الدفاع عن الأوضاع الراهنة ويعمدون إلى إحالة الأمر إلى عهود سابقة وكأن هذا كافٍ للجم المواطنين عن المطالبة بحقوقهم الأساسية، وتجدهم يزعقون في وجه أي منتقد أو معترض عن اختلال الأحوال باعتبار منتقدي السوء الحاصل ما هم إلا مدافعون عن نظام سابق، وأنهم أعداء للوطن، رغم أن كثيرا من هؤلاء المنافقين كانوا في مقدمة مادحيه والساعين للحصول على رضاه وهم يعمدون إلى هذا الأسلوب كي يلتحفوا بغطاء النظام الجديد وينفوا أي شبهة ارتباط بالماضي القريب.
الأمر الحاصل منتج طبيعي لغياب العمل المجتمعي المنظم بسبب ضعف كيانات المجتمع المدني والغياب الملحوظ للنقابات، وهناك أيضا الارتباك في المشهد الحزبي نتيجة الخلط الواقع باندماج المعارضة السابقة في جسد السلطة وتشبثها بمزاياها، وسعيها إلى تكريس هذا الأمر تحت شعار التوافق الوطني والثورة، والحقيقة هي أن الأحزاب تحمل شعارات براقة أغرت العوام بمفرداتها وتشبثت بالمصالح التي جنتها على حساب أصحاب الحق الأصيلين لأنها تدرك أنها لا تمثل ثقلا ولا رقما حقيقيا في جداول الناخبين، بل إن أغلبها يعيش في دهاليز الماضي غير قادر على مواكبة العصر الراهن ولا على تقديم رؤى تختلف عما تراكم في أذهانهم على مدى عقود.
إن غياب الإحساس بالمسؤولية محصلة لغياب قيم المساءلة ويكون مستغربا أن نجد من يبرر الأخطاء ويدافع عن مرتكبيها بالهجوم على من يحاولون إبداء ملاحظاتهم باعتبارهم أصحاب حق أصيل وشركاء كاملي الأهلية في الوطن، وهم يكررون الأسلوب المتخلف بغير حصافة، والذي كان كثيرون يشكون منه في العهود السابقة، كما أن الدور بالغ السلبية لوسائل الإعلام الرسمية وسيطرة أصوات محدودة على القنوات الخاصة يؤثران على ما يتلقاه المواطنون الذين يعاني أغلبهم من نسبة الأمية المرتفعة التي تجعلهم مجرد متلقين سلبيين لما تفرزه وسائل الأعلام المسموعة ويصبحون مملوكين ذهنيا لها.
إن ارتقاء الإحساس بالمسؤولية لا يحدث إلا بوجود ضوابط قانونية صارمة نابعة من قيم أخلاقية وفي موازاة هذه الضوابط يجب أن تعمل الوسائط الإعلامية الجادة على تثبيت مبادئ الحيدة في أدنى مستوياتها وأن تكون مفتوحة للعصف الذهني، وسيتيح ذلك مجالا أوسع للخروج من شرنقة الفكر الجامد المتطرف ويطلق فضاءات ومناخات يحتاج إليها العالم العربي لفك عزلته.
خلال الأسبوع الماضي شهدت صنعاء أعمال عنف احتجاجا على النقص الحاد في المشتقات البترولية وانقطاعات الكهرباء، ورغم الاتهامات التي وجهها البعض إلى نظام الرئيس السابق فإن الرئيس هادي كان أكثر إدراكا بحقيقة الدوافع ولم يتعامل معها كما أراد له الراغبون في المزيد من التأجيج، وبرهن على أنه مقترب مما يدور في نفوس الناس من سخط شديد لتدهور أوضاعهم المعيشية، ولم يتردد عن اتخاذ القرار الذي قد يتمكن من تخفيف حدة التوتر في الشارع، ورغم أن الكثيرين كانوا يتمنون حدوث تغيير شامل في تركيبة الحكومة الحالية، فإن ذلك لم يكن متاحا في ظل هشاشة الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وسيكون مطلوبا من التوليفة الجديدة أن تبرهن على قدرة بحدها الأدنى في مواجهة الارتباكات الناجمة عن عدم الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المواطنين، ومن المفيد أن يتجه التركيز إلى الأوضاع التي تلامس حياة الناس اليومية، وعدم التصرف كالنعامة بإخفاء الحقائق لأن ذلك لم يعد ممكنا في ظل الانتشار الكثيف لوسائل التواصل عبر التقنيات الحديثة، ولن ينفع استمرار الخطاب الإعلامي الذي لا يتوقف عن حديث المنجزات التي لا يحس بها المواطن البسيط.
الأشهر المقبلة ستكون عسيرة جدا، ومن المأمول أن تترفع الأحزاب عن تهافتها على توزيع المناصب وفرض شروطها وأن تدرك أن الخطر الداهم لا تنفع معه هذه السياسات التي عفّى عليها الزمن، ويكفي الالتفات إلى ما يحدث في العراق من انهيار للأجهزة الأمنية، وذلك نتاج جشع الأحزاب وانشغالها عن الشأن العام في البحث عن حصص ومنافع خاصة لا تولي الوطن اهتماما ولا تراه أكثر من وليمة يتسابقون على التهامها. لقد تناست الأحزاب العراقية، تلك التي نشأت على قاعدة مذهبية أو مناطقية، أن الوطن صار في مهب رياح عاتية، وها هنا نحن اليوم نرى المجموعات الإرهابية تسيطر على مدينة تلو أخرى ولم يعد بإمكان الأجهزة المسؤولة مواجهتها، بل كانت مشاهد فرار الفرق العسكرية من أمام هذه المجاميع محزنة وتشير إلى انهيار في معنويات الجنود والضباط ما ذلك إلا لأنهم رأوا في سياسييهم حفنة من الباحثين عن المكاسب المادية ملقين بهم الوطن والمواطن خلف ظهورهم.
إن الأحداث التي تمر على العراق ومثلها ليبيا ما هي إلا ناقوس خطر لا بد أن تمتد آثاره إلى الأقطار التي تتصارع أحزابها على المغانم والمناصب، ولن أتحدث عن سوريا، لأن ما يجري بها أحال البلد إلى كومة من الدمار والجوع والإرهاب. ولقد بلغ الأمر عند الأحزاب الحاكمة حد الرغبة في نفي الآخر وإلصاق كل تهمة معلبة على الخصوم، ولعل في الوقت سعة كي تستوعب الأحزاب الرئيسة في اليمن أن القارب يتخبط في أمواج عاتية، وأن الزمن لن يرحم الجميع، ولن تتوقف عقاربه في انتظار صحوة هؤلاء.
مرة أخرى، كان الرئيس هادي وحيدا أمام حالة النهم الشديدة والضغوط القوية التي مارستها بعض الأحزاب عليه وحاولت مساومته، وإذا كان قد استغل الغضب والحنق الشعبيين لتمرير بعض التغييرات إلا أنه أيضا استطاع رمي الكرة في ملعب الأحزاب في انتظار ما ستقدمه للمواطنين.