حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

حين يحتاج بعض الدعاة إلى دعاة

لو سئل بعض المشايخ أو الدعاة عن مسلم عاش سنوات طويلة لا يصلي ولا يؤدي زكاة ماله ولا يصوم رمضان، واكتسب مالاً وفيراً بالحرام والطرق الفاسدة، وتجاهل حدود الشرع في الزواج والطلاق، فماذا عليه غير التوبة؟ لقال قلة منهم تنتسب للفقهاء وهي لا تفقه، بأن الواجب عليه أداء الصلوات الفائتة مهما كان عددها، وصوم ما فاته من شهر رمضان، والتبرؤ من المال الحرام، والانفصال عن زواجه المشبوه. هذا الصنف من طلبة العلم، وإن كان وازعهم هو الحرص على من استفتاهم، لكي يتطهر من أدرانه ويتوب التوبة الصادقة، إلا أنهم في الحقيقة يعسرون ولا ييسرون وينفرون ولا يبشرون ويصدون عن الدين ولا يرغبون فيه. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذات المسألة الحرجة، فأجاب جواباً عميقاً ينم عن فقه ملم بمقاصد الشرع وغاياته، ومما ورد في جوابه مع تصرف يسير لتسهيل فهم النص: «فإذا هداه الله وتاب عليه، فإنْ أوجبنا عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات، وأمرناه برد جميع ما اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الزوجات إلى غير ذلك، صارت التوبة في حقه عذاباً، وكان الارتداد حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة، وتوبته وهو مسلم عذاب. وأعرف طائفة من الصالحين من يتمنى أن يكون كافراً ليُسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفّر لأكثر المقصرين والعصاة عن التوبة، وهو شبيه بمن يزرع اليأس في قلوب الناس من رحمة الله، ووضع الآصار الثقيلة والأغلال العظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله الذي به قوامه بعد اليأس منه»، «مجموع الفتاوى» (21 - 22).
تقول رواية تاريخية إن أحد زعماء إنجلترا في العصور الوسطى تراسل مع أحد أمراء المغرب يعرض عليه الدخول في الإسلام، والاستعانة به ضد خصومه في الجزيرة البريطانية، وتقول الرواية إن الزعيم الإنجليزي حين قرأ عن الإسلام استرعى انتباهه تحريم الخمرة، فكتب إلى الأمير المغربي يطلب استثناءه من هذا التحريم لأنه مدمن على الخمرة، فرد عليه الأمير المغربي، وربما بعد استفتاء أحد العلماء حوله، بأن تحريم الخمرة من القطعيات والثوابت في الدين الإسلامي، فتراجع الزعيم الإنجليزي عن الدخول في الإسلام، وأذكر أن شيخاً أزهرياً في بريطانيا علق على الحادثة التاريخية بقوله: «زجاجة فودكا حرمت دين الإسلام من فرصة تاريخية»، ولا ريب أن الذي حصل هو بسبب قلة فقه من أفتى الأمير المغربي، وعدم استيعابه لفقه المقاصد الشرعية. وفي سيرة المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، حادثة مقاربة مكتنزة بفقه المقاصد والعناية بالغايات، ففي الصحيح أن وفد ثقيف قد وفدوا على النبي في المدينة، وعرض عليهم النبي الإسلام فاشترطوا عليه إعفاءهم من دفع الزكاة، والمشاركة في الجهاد، فوافق لهم، وقد قال النبي بعدها: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا».
بعض الدعاة ينقصهم الحكمة والموعظة الحسنة، والتعمق في فهم المقاصد وإدراك المآلات، فيعسر بدل أن ييسر، وينفر بدل أن يبشر، هذه الفئة من الدعاة أولى بالدعوة.
وللحديث بقية.