ليونيد بيرشيدسكي
TT

لماذا هجر الروس الفضاء؟

لم تتردد أصداء إطلاق الصاروخ الأميركي «سبيس إكس فالكون هيفي» في أي مكان في العالم كما ترددت في روسيا. فالشركة الأميركية الخاصة تواصل عرض مهارات تقنية فشل فيها وهجرها قطاع الفضاء الروسي بعد أن يئس منها. وتجلى ذلك في إعادة استخدام الصواريخ، وحالياً في إعادة الإطلاق الناجح لصاروخ يحوي 27 محركاً.
وقد حاول الاتحاد السوفياتي السابق تنفيذ أمر مشابه في ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي. وشرع سيرغي كوروليف، مصمم الصواريخ الذي أطلق أول قمر صناعي وأول رجل إلى الفضاء، في تطوير ما عرف لاحقاً باسم صاروخ «إن 1» الثقيل الذي يحمل ثلاثين محركاً، وكان الصاروخ قادراً على حمل محطة فضاء بوزن 75 طناً إلى مدار كوكب الأرض، وربما إلى القمر والمريح والزهرة. انتهى العمل في الصاروخ بعد رحيل كوروليف عام 1966، وخضع من ثم لاختبار تجارب الإطلاق أربع مرات، وفشلت جميع تلك المحاولات، وكان السبب الرئيسي هو صعوبة تشغيل هذا الكم من المحركات في وقت متزامن.
ومؤخراً قام صاروخ «سبيس إكس فالكون» بمهمة مماثلة، وإن كان من غير المعلوم حتى الآن الجهة التي ستتعاقد على تنفيذ خدمات صاروخ «سبيس إكس». ويمتلك منفذ الصاروخ، إيلون ماسك، أقوى صاروخ في العالم، حيث يستطيع حمل أوزان تقدر بـ 64 طناً إلى مدار الأرض. غير أن خطط روسيا لبناء صاروخ يكون قادراً على الوصول إلى القمر أو المريخ ليست جاهزة بعد، وبالتأكيد لم يجرِ تمويل المشروع بالكامل، وإن كان إيغور كوماروف، مدير وكالة الفضاء الروسية، قد وعد بأن تتم عملية الإطلاق الأولى عام 2028.
أما بالنسبة إلى الصين فمن المرجح أن تقوم بعملية إطلاق ثقيلة قبل روسيا. لكن يعود الفضل في ذلك إلى نبوغ إيلون ماسك، رجل الأعمال الناشئ. وعلى الجانب الآخر، تتمتع وكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» بوقوف الدولة بكل إمكاناتها خلفها. وها هو عاشق الاستعراض ذو المظهر الصبياني، ديفيد بوي، يعلن من خلال راديو السيارة إطلاق مركبته إلى الفضاء، ولم يتبق سوى أن تتضمن برامج تحديد المواقع المستخدمة في السيارات إرشادات للوصول إلى غالاكسي، أو درب التبانة. الجميل في الروس أنهم يضحكون على كل ما يؤلمهم؛ ولذلك فقد ظهرت الكثير من النكات والتعليقات التي أقرّت بالهزيمة، وباقتراح ما كان يمكن لروسيا أن تستخدمه بدلاً من مركبتها «تسلا رودستار»، لكن المغزى الخفي جاد. وقد نشر فيتالي إيغروف، المتحدث باسم شركة «دو ريا إيروسبيس»، الروسية المتخصصة في تصنيع الأقمار الصناعية والتي تعمل مع وكالة الفضاء الروسية، تعليقاً مريراً على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» قال فيه: في الحقيقة، لم يفعل رجل الأعمال ماسك شيئاً يفوق الخيال، فالسوفياتي كوروليف فعل الشيء نفسه، وهو نفس ما فعله مصمم محركات الصواريخ فالنتيان غلوشينكو. لقد فعلها السوفيات من قبل، وبمقدور الروس أن يفعلوها أيضاً. لكننا الآن أصبحنا نجلس في مقاعد المتفرجين، وبتنا نرى ما يحدث كأنه ضرب من الخيال. فقد سألني الناس السؤال التالي: هل يمكننا استنساخ النجاح الذي حققته سبيس إكس؟ فنياً، نعم نستطيع، فتصميم قاعدة الهبوط أو تصنيع صاروخ بالغ الثقل ما هو إلا عملية حسابية، وبلادنا لم تنضب من علماء الرياضيات، لكن ما نضب هو الأحلام. فلكي نعلم كيف نطير وأين نطير، علينا أن نعلم لماذا نطير. فبقدرته على البيع وبنبوغ مرجعياته الثقافية، أصبح لرجل الأعمال الأميركي ماسك حلم وصفه في مقال نشره العام الماضي تحت عنوان «لكي نحتل المريخ». ففي هذا المقال، اعترف ماسك بأن هذا الحلم كان حافزه الوحيد للثراء. لكن روسيا ليس لديها حلم مماثل. وحدث أن دخل ديمتري روغوزين، نائب رئيس الوزراء الروسي المسؤول عن صناعات الدفاع والفضاء، في مشاحنات علنية مع إدارة وكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» بعد فشل محاولة الإطلاق الأخيرة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وكان مسؤولو «روسكوزموس» قد قاموا باستئجار طائرة خاصة من شركة «غولستريم» لتقوم بالطيران للمساعدة في عملية الإطلاق من خلال منصة جديدة بأقصى شرق روسيا، لكن صاروخ «سيوز» الذي كان يحمل 18 قمراً صناعياً احترق داخل الغلاف الجوي. وانتقد روغوزين وكالة الفضاء الروسية بتصنيع الصاروخ لكي يطلق من منصة مختلفة، قائلاً: «ترزي خاط الجيب وترزي آخر خاط الصدر، وفي النهاية السترة لا تصلح لشيء». لكن سلسلة من التحريات في قطاع الفضاء الروسي كشفت استخدام عناصر زهيدة الثمن في تصنيع الصاروخ؛ نظراً لتعرض برنامج الفضاء الروسي للإفلاس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن إصرار شركة «سبيس إكس» الأميركية الخاصة على خوص المجال والإبداع فيه ونجاحها في تقليل الكلفة عن طريق إعادة استخدام صواريخ قديمة جعل من الشركة قائدة للسوق العام الماضي والأكثر ربحاً، وربما بات صاروخها «فالكون 9» الأكثر نجاحاً في العالم.
من جانبها، اعترفت وكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» بالتهديد الذي تمثله شركة «سبيس إكس» الأميركية بعد أن قضت سنوات في انتقادها علانية. وتعمل وكالة الفضاء الروسية على تقليل الكلفة بواقع 20 في المائة وعلى إعادة استخدام مكونات الصواريخ على غرار منافستها الأميركية. لكن شركة رجل الأعمال الأميركي قطعت شوطاً طويلاً وباتت في المقدمة، ولن يكون من السهل اللحاق بها. ويشير الكثير من الروس الذين يشعرون بالغيرة من نجاح ماسك إلى أن الرجل ما كان ليحقق هذا النجاح من دون مساندة حكومته، مثل الدعم الفني من وكالة «ناسا» ومليارات الدولارات في هيئة دعم حكومي. وتتحصل كذلك باقي قطاعات صناعة الفضاء الأميركية على الكثير من المال الحكومي شأن برامج الفضاء في أوروبا والصين واليابان والهند. وهنا، ربما استطاع إيغوروف أن يضع يده على الفارق، وهي العاطفة الشخصية لمجتمع مغرم بقصص الخيال العلمي والهوس بقيادة مركبة فضاء كهربائية، وهي الأحلام التي كان لها مفعول السحر في قيادة شركة «سبيس إكس» للسوق، وهنا يكمن السبب الحقيقي، وهو الدافع الذي يفوق تأثير أي دعم حكومي.
فبالنسبة إلى نائب رئيس الوزراء الروسي ولمدير وكالة الفضاء الروسية، قد لا يكون للحلم تأثير على الهندسة وعلى الشركة، لكن بكل تأكيد، للحلم تأثير في رفع أوزان ثقيلة إلى عنان السماء.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»