هال براندز
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

تداعيات الخلاف بين أميركا وأوروبا حول الصين

عبر كثير من الوثائق الاستراتيجية الجديدة، طرحت إدارة ترمب فكرة أن أميركا بحاجة إلى الاستعداد لمنافسة جيوسياسية طويلة الأمد مع الصين. ويعتبر هذا تحولاً إيجابياً في السياسة الأميركية - وإن كان خطابياً فحسب في الجزء الأكبر منه حتى الآن - ذلك أنه يعكس التهديد المتنامي الذي تشكله الصين على النظام العالمي الليبرالي. ورغم أن التنافس الأميركي - الصيني يعد بصورة أساسية قضية عابرة للمحيط الهادي، فإن وجود انقسام عبر الأطلسي قد يعوق تنفيذ استراتيجية أميركية حيال كيفية التعامل مع بكين. المعروف أن الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة يحتلون المكانة الأهم بين حلفائها منذ أمد طويل، لكن اليوم كثيراً ما ينظر الأوروبيون والأميركيون إلى التحدي الصيني على نحو مختلف للغاية.
يذكر أن ثورة الغضب جراء أحداث ميدان تيانامين عام 1989 كانت أقوى داخل أميركا عنها في أوروبا. عام 2005، أوشك الاتحاد الأوروبي على رفع الحظر الذي كان يفرضه على بيع أسلحة للصين، ولم يبقِ عليه سوى بعد تدخل إدارة الرئيس جورج دبليو. بوش في اللحظة الأخيرة. إلا أن اللافت أن الفجوة عبر الأطلسية فيما يخص الصين تفاقمت خلال السنوات الأخيرة لأسباب متعددة.
يرتبط أول هذه الأسباب بالجغرافيا، ذلك أن مكانة أميركا باعتبارها قوة تطل على المحيط الهادي، لديها داخل المنطقة كثير من الحلفاء الذين ترتبط معهم بمعاهدات يجعل التهديد العسكري الصيني ملموساً بالنسبة لواشنطن، على نحو لا يعايشه غالبية الحلفاء الأوروبيين. ببساطة، بمقدور الاستراتيجيين الأميركيين بسهولة تخيل سيناريوهات لاندلاع حرب بين أميركا والصين.
في المقابل، يبدو الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للاستراتيجيين الأوروبيين فيما يخص تخيل سيناريو يمكن في إطاره أن تشكل دولة - حتى وإن كانت قوة استبدادية صاعدة - تقع على الطرف الآخر من العالم تهديداً أمنياً خطيراً.
ويتمثل السبب الثاني في أن غالبية الحكومات الأوروبية تركز ليس على التحدي الجيوسياسي الصادر عن الصين، وإنما الفرص الاقتصادية التي تحملها. على سبيل المثال، تصدرت العناوين الرئيسية للصحف عام 2015 تصريحات ديفيد كاميرون حول تدشين «حقبة ذهبية» في العلاقات بين المملكة المتحدة والصين، ومساعيه لجعل لندن وجهة مفضلة لدى الاستثمارات الصينية. وتعد هذه بمثابة ظاهرة على مستوى القارة الأوروبية بأكملها، حيث تتسابق الدول الأوروبية إلى بناء علاقات تجارية مربحة مع بكين.
ويكمن سبب ثالث في أنه حتى إذا رغبت حكومات أوروبية في الاضطلاع بدور أكبر في الأمن بالمنطقة الآسيوية المطلة على المحيط الهادي، فإنها قد تعجز عن ذلك، فمنذ نهاية الحرب الباردة، تمثل الدور الأمني الرئيسي لأوروبا في توفير الحماية عندما تقدم واشنطن على اتخاذ إجراءات عملية حيال تهديدات للنظام الدولي، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. إلا أنه نظراً لأن غالبية الدولة الأوروبية تقدم في الوقت ذاته على تقليص نفقاتها العسكرية بشدة، وبسبب الصعوبات الجغرافية الكامنة في مسألة نشر القوة العسكرية بمنطقة آسيا المطلة على المحيط الهادي، فإن معظم الحلفاء داخل «الناتو» ليس بإمكانهم ببساطة فعل الكثير لتعزيز توازن القوى داخل المحيط الهادي.
ومع أن الفرنسيين والبريطانيين أعلنوا أهمية ضمان حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، ونفذوا تدريبات بحرية بالتعاون مع الولايات المتحدة واليابان، ورغم أن مثل هذه الخطوات الرمزية في معظمها مرحب بها، فإنها تكشف مدى ضآلة الدور الأوروبي على صعيد المعادلة الأمنية في المنطقة الآسيوية المطلة على المحيط الهادي.
وأخيراً، تتفاقم الفجوة الأميركية - الأوروبية، مثلما الحال مع كثير من المشكلات المرتبطة بالسياسة الأميركية اليوم، بسبب الرئيس دونالد ترمب. ويرجع ذلك إلى أن أميركا تحت قيادة ترمب كثيراً ما تبدو كأنها تتراجع عن دورها القيادي الدولي، بخصوص قضايا مثل التجارة والمناخ والحكم الديمقراطي، في الوقت الذي تقر فيه سياسات قومية حمائية. وقد سمح هذا التحول لشي جينبينغ بسرقة الأضواء خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2017 عبر تصوير الصين باعتبارها القائد العالمي الجديد على صعيدي التجارة والمناخ. كما دفع ذلك الوضع بعض المراقبين الأوروبيين نحو النظر إلى إقرار روابط أوثق مع بكين باعتباره إجراء حمائياً في مواجهة أي تقلبات سلبية في السلوك الأميركي.
وقد تسبب هذا الوضع أيضاً في إعاقة التعاون بين الجانبين بخصوص قضايا يتفق بشأنها الأميركيون والأوروبيون بدرجة كبيرة. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «ذي فايننشيال تايمز» أن بعض المسؤولين الأوروبيين وأعضاء النخب التجارية في القارة يشاركون الولايات المتحدة قلقها إزاء السرقة الصينية للملكية الفكرية. ومع هذا، فإنهم قلقون إزاء التعاون مع واشنطن في اتخاذ إجراءات عقابية ضد بكين خشية تقويض منظمة التجارة العالمية (التي تبدو هدفاً مفضلاً أمام ترمب) أو تعزيز نزعات ترمب نحو الإجراءات الحمائية.
جدير بالذكر أن إدارة ترمب وقفت إلى جوار دول أوروبية في شكواها من سياسات اقتصادية صينية، وكان أبرز هذه المواقف دعمها تحرك الاتحاد الأوروبي نحو إرجاء الاعتراف بالصين باعتبارها اقتصاد سوق من قبل منظمة التجارة العالمية. ومع ذلك، فإنه فيما يتعلق بالصين، مثلما الحال مع كثير من القضايا الأخرى، تسببت إدارة ترمب في اتساع، بدلاً من رأب، هوة الخلافات عبر الأطلسي. وحال استمرار هذه الفجوة، فإنها ستثير مشكلات لا حصر لها.
على سبيل المثال، سيصبح من الأصعب بالنسبة لواشنطن تنفيذ استراتيجية اقتصادية أكثر تنافسية إزاء الصين. والملاحظ أن هذا الأمر ينطوي بالفعل على صعوبات كبيرة بالنظر إلى ضخامة حجم الاقتصاد الصيني والاعتماد المتبادل القائم بين بكين من ناحية وواشنطن وحلفائها بالمنطقة الآسيوية المطلة على المحيط الهادي من ناحية أخرى.
ومع ذلك، فإنه إذا رغبت واشنطن في المنافسة بفاعلية أمام بكين، فإنه يتعين عليها صياغة سياسات للحد من فرص استعراض الصين قوتها الاقتصادية، ومنع بكين من استغلال إغراءات التجارة والاستثمارات للحد من المقاومة الدبلوماسية التي يواجهها سلوكها المسبب لزعزعة الاستقرار.
أيضاً، الفجوة عبر الأطلسي تحمل في طياتها إمكانية تقويض الاستراتيجية الأميركية عبر صور أخرى. مثلاً، قد تجد واشنطن صعوبة أكبر بمرور الوقت في تثبيط الاتحاد الأوروبي عن رفع حظر الأسلحة الذي يفرضه على بكين، وهي خطوة من شأنها تعميق التحدي الصيني للتفوق العسكري الأميركي غرب المحيط الهادي. ومن شأن الخلاف عبر الأطلسي بخصوص الصين التسبب في تفاقم صعوبة التعامل مع التحدي الأوسع، الذي يمثله السلوك الصيني بوجه عام، ذلك أن الصين لا تشكل تهديداً عسكرياً وجيوسياسياً للولايات المتحدة وحلفائها فحسب داخل المنطقة الآسيوية المطلة على المحيط الهادي، وإنما تعتبر القوة القائدة لعدد من القوى غير الليبرالية الأخرى التي تناوئ النظام الليبرالي العالمي، الذي شيدته واشنطن بالتعاون مع شركائها الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية.

*بروفسور الشؤون الدولية
في جامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»