حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

الأمن خيار العرب الآمن

لم يفهم بعض المحللين والمراقبين الإقليميين والدوليين قبول البعض في عدد من الدول بخيار حكم القبضة الأمنية مع ما قد يبدو فيه من غياب للمظاهر الديمقراطية أحياناً، ولم يستوعب بعضهم سبب رضا الجماهير تجاه تلك القبضة الأمنية الحديدية التي اعتمدتها عدد من الدول، ولم يفهموا كيف أن بعض الشعوب العربية آثرت الهدوء وعدم حشد المظاهرات وتنظيم المسيرات للمطالبة بحكم ديمقراطي حقيقي، خصوصاً أن هذه الفترة هي فترة ما بعد حراك الثورات العربية التي استهدفت أنظمة قمعية جثمت على صدر شعوبها، فالمنطق لدى هؤلاء هو أن تتواصل مظاهر رفض الواقع السياسي العربي بغية تغيير جذري، ولأن هناك خطأ في التشخيص فلا بد أن يقود بالضرورة إلى خطأ في النتائج، فقالوا إن هذه الشعوب العربية التي خضعت للقبضة الأمنية الحديدية إنما خضعت خوفاً من بطشها وفتكها وقسوتها، وهذا استنتاج تعوزه الدقة، ومع أننا لا ننكر أن القبضة الأمنية ترهب وترعب، وهي التي أمسكت بخناق الشعوب في الصين وكوريا الشمالية وغيرهما، إلا أن تحدي هذه القبضة الأمنية وتقويضها والإجهاز على زعاماتها تدعمه تجارب أخرى لحُكام غاية في الوحشية والدموية كنظام تشاوسيسكو في رومانيا والقذافي في ليبيا والأسد في سوريا، وعشرات من التجارب الدولية الأخرى.
إذاً ما الذي حمل ويحمل بعض الشعوب العربية على الرضا والهدوء وقبول بعض الممارسات والانصياع للقبضة الأمنية؟ الجواب هو ذات الربيع العربي، أي أن ما ظنه بعض المحللين والكتاب الصحافيين حافزاً للجماهير العربية لتحدي القبضة الأمنية والانقضاض على حكوماتها هو في الحقيقة الرادع من أن تكون ردة فعلهم كردة فعل شعوب الربيع العربي التي هاجت وماجت وتظاهرت وتحدت فكانت النتائج عليها كارثية؛ عشرات الآلاف من القتلى وملايين المشردين ودمار البنية التحتية مما يجعلها تحتاج إلى عقود من الزمن لإصلاح الدمار الهائل.
ويخطئ بعض المحللين تارة أخرى حين يرون أن صبر بعض الشعوب العربية على القبضة الأمنية يشي بنقص الوعي عند هذه الشعوب، وفي تقديري أن العكس هو الصحيح، فوعي الشعوب العربية بمآلات الثورات وعواقبها وخطورتها هو ما جعلها تنزع للسكون، وعليه فلا يصح تبكيتها والسخرية بها واتهامها بنقص الوعي أو الخنوع للظلم، وكان جديراً بالنخبة المثقفة أن تشجعها على هذا الأسلوب وتحفزها على المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والتربوية التدرجية، حتى لو طال الزمن، وفي التجربة التركية عبرة، فقد صبرت الأحزاب السياسية التركية بكل أطيافها على قمع العسكر وإجهازهم على الحياة الديمقراطية مرات عديدة، فلم تندلع ثورة تأكل أخضر تركيا ويابسها، بل أثمر صبر الأحزاب السياسية ومعها الجمهور التركي على ضخ دماء الديمقراطية بطريقة متئدة فيها طول نفس، وأثمر ذلك كله توافقاً لافتاً بين العسكر والأحزاب المدنية لتنهض تركيا تنموياً واقتصادياً وعسكرياً.
الخلاصة أن الشعوب العربية أمست تدرك أن صبرها على القبضة الأمنية مع الاستقرار والمطالبة بالإصلاح المتدرج أولى وأهم من حراك خطر يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.