يزداد غموض إعلام المستقبل يوماً بعد الآخر. كل يوم تظهر إمكانات تقنية جديدة ومصادر معلومات مختلفة. عشرات التطبيقات تدخل ساحة المنافسة يومياً. «أمازون» يخطط لمنافسة «يوتيوب». «واتساب» يأخذ من حصة «سناب شات». «تويتر» يرغب في حصة من مستخدمي «فيسبوك». مستخدم جديد لوسائل التواصل الاجتماعي كل 15 ثانية. 62 مليار رسالة يومياً على تطبيقي «فيسبوك» و«واتساب». 8 مليارات مشاهدة يومياً للفيديو على «فيسبوك» و«سناب شات». المشاركة حلت مكان الاستقبال والتلقي. ولم تعد وسيلة الإعلام تتصدر المشهد، فالمتلقي فرض نفسه عنصراً قوياً لا يمكن تجاهله. المهم هنا أين تقف وسائل الإعلام أمام هذه العاصفة الهوجاء؟! ربما من السهل توصيف أزمة الإعلام التقليدي، وتراجع انتشاره وتأثيره وانحساره، بعد أن تسيّد الساحة طويلاً، لكن في الوقت ذاته، لا يوجد من يستطيع أن يحدد المسار المقبل لمستقبل الإعلام، وما هي الوسيلة الإعلامية أو النموذج الأمثل التي سيحل بديلاً للإعلام التقليدي.
إذا كانت الصحافة الورقية تتعرض لتحديات غير مسبوقة، نتيجة تراجع نسب القراءة، مصحوباً بتراجع عائدات الإعلان، فإن الأزمة لم تعد محصورة بها فحسب، وإنما تعدتها لتصل إلى التلفزيون الذي سجل في 2017 ولأول مرة تراجعاً في عائدات إعلاناته لصالح الإعلان الرقمي، أما من يعتقد أن مواقع الإنترنت في مأمن من الثورة التقنية، فعليه أن يراجع حساباته، فعملاقا الإنترنت «فيسبوك» و«غوغل» يستحوذان على 60 في المائة من عائدات الإعلانات الرقمية، بمعنى إذا كانت القنوات الفضائية تنافس بعضها، وكذلك الصحف تفعل الشيء نفسه للحصول على حصة من كعكة الإعلانات، فإن المواقع الإلكترونية الإخبارية تنافس «فيسبوك» و«غوغل»، فإذا أضفنا أن خدمة الدفع مقابل القراءة أو المشاهدة إلكترونياً محكومة بالفشل في العالم العربي، لعدم وجود قوانين الملكية الفكرية التي تمنع السطو على المحتوى، فإن الصورة تبدو قاتمة جداً على واقع الإعلام.
وسائل التواصل الاجتماعي بالطبع هي الغول الذي هدّد أسطورة الإعلام التقليدي، فهي الأكثر انتشاراً وحتى تأثيراً، حيث لم يعد المستخدمون يهتمون بوسيلة الإعلام ذاتها، وإنما بالعلاقة معها، لذلك لا تستغرب أن هناك من يستقي أخباره ومعلوماته من «واتساب»، ويسعى لإقناع الآخرين بمعلومة ليس لها مصدر، المصدر الوحيد هو «واتساب»! فمع ظهور أي تقنية جديدة، يشعر الناس بالحماس والاهتمام والارتباط المذهل بها، مع التذكير أن الأخبار ذات المصداقية التي تنشر في «تويتر» و«فيسبوك» وغيرها لا تعدو كونها نقلاً لما تبثه وسائل الإعلام الأخرى، فوسائل التواصل لا تملك محتوى إخبارياً ولا تنتجه، وما يربط المستخدمين فيها، على حساب الوسائل التقليدية، أنها تقدم الشغف والمتعة، والأسبوع الماضي أظهر استطلاع جديد للرأي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن 24 في المائة فقط من البريطانيين يثقون بمواقع كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» فيما يتعلق بالبحث عن الأخبار والمعلومات. وفي الولايات المتحدة قال المشاركون في استطلاع أجراه معهد غالوب وسط 20 ألف أميركي تقريباً، إنهم يثقون أكثر في أخبار الصحف وقنوات التلفزيون الرئيسية الوطنية. ويثقون أقل بأخبار مواقع التواصل الاجتماعي.
لا جدال أن وسائل التواصل الاجتماعي أضفت متعة وشغفاً على طريقة تلقي الأخبار، وأضحى الارتباط بها أكثر بكثير من الارتباط بوسائل الإعلام التقليدية، وهذا ما يشكل تهديداً حقيقياً على مضمون الرسالة الإعلامية، وكيفية وصولها دون تشويش للمتلقي، صحيح أن الرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل أصبحت أكثر انتشاراً وتنافسيةً وإمتاعاً، لكنها في الوقت ذاته أكثر عرضة للاختراق والتشويه والتزوير، وهنا يكمن التحدي الكبير في إمكانية الحفاظ على رصانة ودقة الرسالة الإعلامية وسط سيل من الفوضى غير المسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يمكن القول: إنها الأكثر انتشاراً، وهي أيضاً الأقل مصداقية، باستثناءات حسابات بعينها لا تشكل إلا نحو 1 في المليون من مليارات الحسابات التي يمتلئ بهم الفضاء الإلكتروني.
مع غياب أي نموذج واضح لإعلام المستقبل، الذي لا شك سيكون رقمياً بالدرجة الأولى، فإن النافذة الوحيدة الباقية أمام الإعلام التقليدي لمواكبة هذه العاصفة الهوجاء، هو الحفاظ على ماركات إعلامية تتمايز وتختلف عن بعضها بالمحتوى والنوعية، سواء كان ذلك على الورق أو الجوال أو الشاشة في المنزل أو المكتب، أو ربما مستقبلاً في شريحة صغيرة مزروعة داخل جسم الإنسان، الأكيد أن نهاية عصر الجريدة المطبوعة، مثلاً، لا تعني بالضرورة نهاية عصر الصحافة، فالماركة الإعلامية المتميزة وحدها القادرة على البقاء في عين العاصفة، حتى وإن كان النموذج البديل غائباً ولم يخلق حتى الآن.
8:37 دقيقه
TT
20
صناعة الإعلام في عين العاصفة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة