فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

اختبارات جديدة للتسوية السورية

التحضيرات في موسكو تجري على قدم وساق لعقد «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي، المدينة التي كادت تصبح العاصمة الجنوبية لروسيا الاتحادية. الجهات الرسمية الروسية تؤكد باستمرار أن موسكو لا تريد مؤتمر سوتشي بديلاً عن محادثات جنيف. على العكس، هدف هذا المؤتمر هو المساعدة في إنجاح محادثات جنيف.
المحادثات تحت رعاية الأمم المتحدة لا بديل لها، ولا يمكن أن يكون لها بديل. إن القرار الحاسم لـ«الهيئة العليا للمفاوضات»، المعارضة لدمشق، بزيارة موسكو وإجراء محادثات مع الوزير سيرغي لافروف، مع علمهم بأن المتطرفين الذين ينوون نسف العملية السياسية سوف يمطرونهم بالانتقادات اللاذعة، لا يشير إلى شجاعتهم فحسب، بل إلى تفهم خصوم موسكو أنها تسعى لتسوية على أساس الشرعية الدولية.
لكن المنعطفات الأخيرة في تطور الأحداث في سوريا تشكل مخاطر جديدة تجاه التسوية السورية بشكل عام، بإلقائها الضوء على الخلافات بين الدول العظمى، العالمية منها والإقليمية، وإظهارها ضرورة توصل هؤلاء اللاعبين الخارجيين إلى أقل ما أمكن من الفهم المشترك لعدد من المشكلات التي لا يمكن التحرك إلى الأمام من دون حلها. وسأتطرق هنا إلى اثنتين منها فقط:
المشكلة الأولى هي الاستمرار في مكافحة المنظمة الثانية المدرجة بعد «داعش» في قائمة الأمم المتحدة كمنظمة إرهابية، أي «جبهة النصرة» سابقاً، ذلك أن تغيير اسمها لم يلغِ صفتها كمنظمة إرهابية. فبحسب رأي الحكومة السورية وروسيا والجزء الأكبر من المجتمع الدولي، فإن مكافحة «جبهة النصرة» من ناحية القانون الدولي شرعية، ومن الضروري القضاء عليها، كما تم القضاء على «داعش».
ومن ناحية أخرى، نرى أن الضربات الأخيرة التي تم توجيهها إلى مواقع هذه المنظمة في إدلب، حيث هناك واحدة من «مناطق خفض التصعيد»، وكذلك في مناطق أخرى من سوريا، تسببت بموجة انتقادات من جهة مجموعات المعارضة المعتدلة، وكذلك من جهة بعض دول المنطقة، وبالأخص من قبل تركيا. فكيف يمكن التوفيق بين تشكيل أربع «مناطق خفض التصعيد» في سوريا هذا من ناحية، وضرورة القضاء على قواعد «جبهة النصرة» من ناحية أخرى؟
المشكلة الثانية والأكثر حدة تتعلق بالتطور المعروف للأحداث في منطقة عفرين. وفي هذا السياق، تبرز عدة أسئلة:
السؤال الأول: ما النتائج العسكرية التي ستؤول إليها الحملة التركية في عفرين؟ لا شك أن الجيش التركي، بالإضافة إلى فصائل المعارضة المسلحة الموالية لتركيا، يتفوقون بإمكانياتهم على القوى الكردية، وعلى الأغلب سينتصرون.
السؤال الثاني: ما ثمن هذا النصر؟ يبدو أن المستقبل القريب سيكشف من الذي كان على حق بين الخبراء؛ أولئك الذين يرون أن الانتصار على الأكراد سيكون سهلاً نسبياً أم أولئك الذين يرون أن هذا النصر سيكون مكلفاً جداً، والمقصود هو الخسائر المحتملة.
السؤال الثالث: ما مدى انخراط قوى ثالثة، في حال انخراطها، في الأزمة التركية الكردية؟ هذه القوى منخرطة نوعاً ما بشكل غير مباشر في هذه الأزمة. المقصود هنا هو توريد الأسلحة الأميركية لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ونية واشنطن تشكيل قوة قوامها 30 ألف مقاتل، عمادها الأكراد من «قوات سوريا الديمقراطية»، لمكافحة الإرهاب، ومن ثم تحويلها إلى قوة حرس حدود (في الشمال الشرقي من سوريا، كما يدعي الأميركيون)، وهو بدوره ما كان قد أثار غضب الرئيس التركي. وعلى ما يبدو أن تأكيدات الأميركيين أن الحديث يدور بشكل رئيسي عن الحدود الشمالية الشرقية، وليس الشمالية والشمالية الغربية (في حال كان الأمر فعلاً على هذا النحو)، لا ترضي الرئيس التركي. ومن الواضح أن وقف الدعم الأميركي للأكراد هو شرط أنقرة الرئيسي لوقف العملية العسكرية.
السؤال الرابع إذن: ما الأهداف الحقيقية لهذه العملية العسكرية؟ وما الأهداف السياسية التي يعول عليها المبادرون فيها؟ هل هي تطهير المقاطعة من «وحدات حماية الشعب» الكردية أم تشكيل حزام أمني بعمق 30 كلم في الأراضي السورية على طول الحدود معها؟ هل هي السيطرة على مدينة عفرين أم استخدامها كقاعدة للمعارضة المسلحة التي تقاتل ضد حكومة الأسد (التي يشكل التركمان و«الإخوان المسلمون» أغلب فصائلها)؟
أما بالنسبة إلى العنصر الجديد في توزيع القوى، فهو المواجهة الحادة متعددة المستويات في معسكر أولئك الذين بدا وكأنهم توحدوا في مكافحة العدو المشترك «داعش»، وفي علاقات تحالف مع الشركاء نفسهم: الأتراك ضد الأكراد الذين تدعمهم الولايات المتحدة - حليفة تركيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والفصائل الكردية ضد الجيش النظامي السوري، و«الجيش السوري الحر» ضد «قوات سوريا الديمقراطية»، وحتى بين الأكراد أنفسهم لا يوجد وحدة. ودمشق، حليفة موسكو، تعتبر الأتراك محتلين، لكن موسكو تبدي تحفظها في هذا الموضوع. والقيادة في تركيا تتحدث وكأن هناك اتفاقاً مع موسكو بهذا الصدد، رغم أن موسكو لم تؤكد هذا الأمر.
وبرزت الحدة واضحة في تعليق وزارة الدفاع الروسية على الأحداث الدائرة من أن ما أدى إلى قيام تركيا بعملية عسكرية في شمال سوريا هو توريد وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أسلحة حديثة، بما في ذلك «منظومات الدفاع الجوي المحمولة على الكتف» إلى «الوحدات الموالية لأميركيا»، وهذا الأمر موجه إلى «هدم الدولة السورية». ومثل هذه الأفعال «غير المسؤولة من قبل الجهة الأميركية في سوريا»، بحسب رأي العسكريين الروس، ستؤدي إلى نسف عملية التسوية السياسية، وعرقلة المحادثات السورية في جنيف، التي من المفروض أن يكون الأكراد من بين المشاركين الأساسيين فيها.
ويلقي بعض القادة الميدانيين لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية، وبعض السياسيين من «حزب الاتحاد الديقراطي»، باللوم على روسيا، بسبب عدم رغبتها في مساعدة الأكراد، ويتهمونها بالتآمر مع تركيا. لكن الأكراد هم من رغب في «وضع كل البيض في سلة واحدة»، والمقصود هو السلة الأميركية، حتى أنه في روسيا لا يعرفون ما فحوى اتفاقاتهم مع واشنطن، وما شكل القوات الأميركية المنتشرة في الأراضي التي تقع تحت سيطرتهم. وروسيا خلال تاريخها وقفت دائماً إلى جانب الأكراد، وتعاطفت مع كفاحهم، وهو ما تقوم به الآن أيضاً، لكن من بين المبادئ العامة الرئيسية للسياسة الروسية في المنطقة الحفاظ على وحدة أراضي وسيادة دول المنطقة، وعدم السماح بانهيار الدول التي تشكلت تاريخياً، واحترام حرمة الحدود، وحل كل المسائل عبر السبل السياسية، وهذا ينطبق على سوريا أيضاً.
في الوقت نفسه، فإن الجزء الأكبر من السياسيين الروس والخبراء، ومن الرأي العام أيضاً، يرون أن إعادة بناء هذه الدولة، الذي لا مفر منه، والذي يجب أن يقوم به السوريون أنفسهم، يفترض وجود درجة معينة من اللامركزية (على أساس الإجماع)، مع احترام الحقوق والمساواة بين جميع مكونات الشعب السوري العرقية والدينية. وروسيا تقف بثبات مع مشاركة الأكراد في الحوار الوطني السوري، في مستويات وساحات العملية السياسية كافة. وكذلك في روسيا أيضاً يثمنون غالياً الدور الكردي في مكافحة «داعش».
وبالمناسبة، نشرت في وسائل الإعلام أخبار تدعي أن دمشق عرضت على الأكراد إدخال جيشها إلى منطقة عفرين لمنع العملية التركية، ولكن، كما تدعي هذه الوسائل الإعلامية، رفض الأكراد هذا العرض. ومن الصعب التأكد ما إذا كان هذا فعلاً قد حصل أم لا، لكن من الواضح أنه كلما تعمق الشرخ بين السوريين أنفسهم، ازدادت صعوبة مهمة الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها. والمطالب القومية للأكراد تستدعي التعاطف، لكن على السياسيين الأكراد الأخذ بعين الاعتبار المقياس الإقليمي للمسألة الكردية. وهل ستؤثر الأحداث المذكورة أعلاه سلباً على العملية السياسية؟ نعم، من المحتمل أن تؤثر عليها، لكنها لن تستطيع إيقافها.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»