أجاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس القول إذ دعا، الأربعاء الماضي، بصريح الكلام، إلى «شد الرحال» للقدس المحتلة. بدءاً، من المهم الاتفاق، أولاً، على أن مجرد إقدام عرب ومسلمين على زيارة المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، هو في حد ذاته مدد معنوي واقتصادي وسياسي، للصامدين في القدس الشرقية منذ احتلالها، وهو بالتالي إسهام عملي على صعيد فك أسرها. ثانياً، الأرجح أن إطلاق الدعوة بحضور عربي - دولي ضم مرجعيات إسلامية ومسيحية على قدر عال من المسؤولية، تقدمها شيخ الجامع الأزهر، دكتور أحمد الطيب، لفت نظر مَن يهتم برصد ملاحظات ربما تبدو هامشية لغير المهتم بأجواء ما يصدر عن كبار الساسة من تصريحات. يعرف ذلك جيداً حرفيو المطبخ الصحافي، لذا تراهم يطالبون مراسليهم بتغطية تشرح خلفيات الخبر، وتجيب عن تساؤلات عدة، لعلها تشمل ما يسمى «لغة الجسد»، التي ربما تعكس مزاج المسؤول. تغطية كهذه تضع الجمهور في أجواء أكثر شمولية للحدث، ثم إنها تعين المؤرخ، في مستقبل الأيام، على فهم أدق لما يراجع من وقائع التاريخ.
بالتأكيد، ليس حتمياً أن يُفهم حضور طرف ما، أو أكثر، خلال إطلاق نبأ مهم، أو دعوة محددة، من منطلق أن الأطراف الحاضرة تتفق تماماً مع ما قيل على مسمع ومرأى منها. ينطبق هذا على وجود شيخ الأزهر، وغيره من المرجعيات الدينية أو السياسية، خلال دعوة الرئيس الفلسطيني بشأن زيارة القدس المحتلة. المهم هنا هو رمزية الشخصيات الحاضرة، وليس استنطاق معنى حضورها على نحو ربما ليس بالضرورة متفقاً مع رأي أي منها في الأمر. إلى ذلك، يمكن القول إن الأكثر أهمية هو تصدي الرئيس محمود عباس نفسه، لشأن بدا، منذ وقوع القدس الشرقية في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، أقرب إلى «التابو» الممنوع الاقتراب منه، أو المساس به. إنه وضع مقلوب رأساً على عقب، كما يقال. لست أجد حرجاً في القول إنني كنت واحداً من ملايين العرب الآخذين بصواب الزعم القائل إن زيارة القدس الشرقية تعني القبول بواقع الاحتلال الإسرائيلي. لقد زُرع في العقول «بعبع» أعطي اسم «التطبيع مع العدو»، وراح المروجون له - مع تقدير حقهم في تخوفهم من مخاطر التطبيع المفتوح - يمارسون دور «الغول» المُخوّف لكل من يجسر على المناقشة، حتى لو اكتفى فقط بمطالبة المتخوفين أن يميزوا بين تطبيع اقتصادي تام، وهو بالتأكيد أمر مُحال بلا سلام شامل يضمن أولاً حق الفلسطينيين في الاستقلال، وبين الكف عن استخدام فزاعة «التطبيع» على نحو يقدم العون للاحتلال ذاته، ولو بلا قصد، من خلال المشاركة في إحكام الحصار على حرية الفلسطيني في التنقل لغرض العمل أو العلم، بمشارق الأرض ومغاربها، ثم المساهمة في تضييق أكثر للخُناق الإسرائيلي المفروض على المقادسة أنفسهم، عندما تخلو أسواق القدس الشرقية من الزوار العرب والمسلمين. وحتى إذا وُضع العامل الاقتصادي جانباً، أليس من الجائز الافتراض أن في تشجيع القدم العربية كي تطأ أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ما يعزز أواصر القربى من جهة، والارتباط الروحي بالإرث التاريخي للإسلام؟
تروّج آلة إسرائيل السياحية لبضاعتها في سوق السياحة العالمي، فلا تتردد في أن تشمل المقدسات الإسلامية والمسيحية إلى جانب اليهودية. تجمع دعاياتها بين أبراج تل أبيب الشاهقة، وأسواق القدس العتيقة. تقول للزائر إنه سوف يمشي بالنهار بين آثار ماضي آلاف السنين، ثم يمضي الليل يعيش مُتع الزمن الحاضر. رغم كل المتاعب الأمنية، تستقبل مطارات إسرائيل ومرافئها البحرية مئات آلاف السياح من مختلف دول العالم سنوياً. لماذا تكبيل أقدام المسلمين والعرب القادرين على القيام بما يقوم به زوّار القدس الآخرون؟ لماذا تقييد حريتهم في شد الرحال إلى عاصمة فلسطين، وهي كذلك، طال الزمن أم قصر؟ أما آن لزعيق التخويف بخيانة التطبيع أن يميز بين حق مد المقادسة بكل أسباب الصمود، وفي مقدمها زيارتهم في قدسهم، وبين باطل تطبيع غير محدود، لم يطالب به أحد في الأصل. ثم، أليس لافتاً أن تسمع أحدهم يقول إنه ملّ من الكتابة في الموضوع الفلسطيني لأنه «غير بيّاع»، ثم تراه هو ذاته يزأر فيهدد بالويل والثبور من يشده الشوق لزيارة القدس، فيزعق بما معناه: ممنوع، هذا تطبيع؟!
11:26 دقيقة
TT
شد الرحال إلى القدس
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة