خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الجرذان والثورة الصناعية

كان من نتائج الثورة الصناعية أن اكتشف المسؤولون في بريطانيا أهمية القطط في مهمات الخدمة المدنية. كان من نتائج هذه الثورة انتشار المعامل والمناجم، وما تبع ذلك من حفريات وخنادق وقنوات ساعدت الجرذان على مهاجمة المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها دوائر البريد. كان الرد الرسمي على ذلك استخدام القطط في محاربة الجرذان والتصدي لها. إذا كانت الحضارة العربية قد بلغت أوجها في عهد هارون الرشيد، فإن حضارة الجرذان والقطط قد حققت عصرها الذهبي في عهد الملكة فيكتوريا خلال القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين.
نجد صدى ذلك في كتاب مدير بريد ساوثامبتون، الميناء الأساسي لنقل المراسلات والرزم البريدية، إلى مفتش البريد في المنطقة، إذ يقول: «لقد استولت الجرذان على مخزن الأكياس البريدية، وأخذت تلحق أضراراً كبيرة بالمراسلات. وقد فوضنا الإدارة باستخدام قطة في هذا المخزن».
ولأول مرة سمعنا في عام 1870 عن منصب «مدير القطط». كتب هذا تقريراً قال فيه «إن نظام القطط قد حل المشكلة بشكل كبير. وقامت القطط بواجبها بكفاءة عالية، ولكننا لم نستطع تلبية طلب معالي الوزير في ضرورة الاقتصار على الإناث من القطط فقط. ونستشف من هذا الطلب حرص السيد الوزير على زيادة نفوس الأيدي العاملة في هذا الميدان».
ولا شك أن مدير القطط قد توخى في تقريره أن يحقق المساواة بين الذكور والإناث. وكان في ذلك رائداً من رواد المساواة بين الجنسين.
وقد أسندت دائرة بريد ساوثامبتون هذه المهمة الخطيرة للمستر ودمان. وخصصت 6 بنسات علاوة أكل لكل قطة. وأثار ذلك مأمور الدائرة المستر ودمان، حيث قال: يؤكد الناظر المستر ودمان أن مبلغ ستة أو تسعة بنسات لا يكفي مطلقاً لتغذية القطط رغم كمية لحم الجرذان المتوفرة في المخزن. إن استهلاك حذائه بسبب الجري وراء القطط والسهر على صحتها وراحتها يكلف كثيراً بما يبلغ نحو نصف العلاوة المخصصة رسمياً. وما يتبقى من العلاوة لا يعوض الناظر عن المهانة التي يتعرض لها أمام الناس في حمل طعام القطط وهو في كامل بزته الرسمية كبوسطجي صاحبة الجلالة الملكة فيكتوريا.
وقد جر ذلك إلى مراسلات ومناقشات استمرت طول القرن، ولا سيما عندما اتضح أن دوائر البريد لم تلتفت إلى المساواة بين الرعية، فكانت أجور القطط ومخصصاتها تختلف من دائرة إلى أخرى، مما يسبب نزاعاً مستمراً بين النظار والبوسطجية، كل يحاول أن يحصل على شروط عمل أفضل لقططه. ومما زاد في تعقيد المشكلة أن قطط البوسطة لم تستطع أن تنظم نفسها في نقابات، كنقابات البوسطجية، تدافع عن حقوقها وتمثلها في أي محادثات تتعلق بأجورها وظروف عملها. ولكنها كانت تقوم بواجبها بكل كفاءة وحرص في قمع الجرذان.