سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

البحرين حكاية حب

ما تفرزه السياسة يبقى عابراً ومرحلياً، وما تقوله حياة الناس على الأرض ومعاشهم هو الأصدق والأكثر دواماً. أصغر الدول العربية مساحةً، وأقلها صخباً، هي مملكة البحرين. أصابها طرف طفيف من العاصفة التي ضربت العرب، وإن كان لا يقاس ولا يذكر - وهذا من حكمة البحرينيين وتعقلهم - أمام جنون ما رأيناه في سوريا أو ليبيا أو اليمن. حين تزور «باب البحرين»، هذه السوق القديمة العريقة في المنامة، تلمس بحواسك كيف صمدت الدولة الصغيرة في وجه الفتنة. ثمة تسامح مذهل في التعايش بين الملل، تداخل ساحر بين العادات والممارسات. يذيقك البحريني أطباق حلواه، وهو يشرح لك أي تأثير ثقافي في نكهتها، وأي الشعوب التي امتزج بها شكّل بهاراتها وتمايزها.
أن تكون البحرين أصغر البلدان العربية مساحة، ومن بين الأقل سكاناً، نوع من التحدي لأهلها. هذا تقرأه في عيون البحرينيين، في سلوكهم، في رغبة كل واحد منهم أن يعرّفك على معالم بلده ومدينته ومنطقته التي يعيش فيها، أن يروي لك تاريخها، أن يريك بأنه منغرس هنا منذ دهر وليس طارئاً أبداً، وأن أجداده كدّوا كثيراً كي يبقى هذا الأرخبيل من الجزر عامراً بالحياة. لا تنتظر البحرين بداية احتفاليتها الرسمية بمدينة المحرق، كعاصمة للثقافة الإسلامية، بعد أيام قليلة، كي تستدعي فرقة صوفية تجود بموسيقاها في «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة»، البديع تراثاً ومعماراً وتجديداً في قلب مدينة المحرق وبين أزقتها التي اكتست أناقة استثنائية. تستبق الموعد وتنظم معرضاً لـ«الفن في حضارة بلاد المسلمين» في المتحف الوطني، ينطوي على كنوز المجوهرات من مجموعة «دار الآثار الإسلامية» في الكويت، التي تجوب العالم. الجهد متواصل والمواعيد سلسلة متشابكة حلقاتها.
تستعجل مدينة المحرق العريقة التي منها حكمت البحرين في القرن التاسع عشر، العيد قبل وصوله لتنبش تراثها، تتحضر بغبطة لاستقبال زوارها. بلاد الصيد والمراكب القديمة تعيد الاعتبار لطريق اللؤلؤ التي كانت يسلكها الصيادون بحراً وبراً، وتقيم بالمناسبة لهذه المهنة التي صنعت ذات يوم شهرتها متحفاً جميلاً، وترمم قلعة جديدة من قلاعها. وكما طريق الحرير الصيني الذي يمتد على مساحة المعمورة، هناك طريق اللؤلؤ المتواضع لكنه مؤثر وحميم لأنه يجعلك تخوض غمار البحر، ثم تجوب الأزقة الضيقة، وتدخل البيوت التراثية التي كان ينطلق منها الصيادون الذين يذكرون لك بالاسم، بحثاً عن كنوزهم قبل أن يغيّر البترول وجه المنطقة كلها. فترة كان الناس فيها يجازفون بأعمارهم، أثناء الغوص في سبيل تأمين رزق عيالهم، لكنها جعلت المواطن أكثر تجذراً بأرضه واعتزازاً بتاريخه، ومحافظة على إرثه في وجه التغول العولمي الذي يدوس بأبراجه ملامح الماضي بلمح البصر.
لا، ليست السياسة وحدها من يرسم معالم الحياة، ثمة بساطة في العيش الشعبي المتواضع بين الشعوب التي التقت، خلال مئات السنين، على هذه الجزر العائمة في الخليج، يوم كانت ملتقى ومفترقاً للتجار واللاجئين والتائهين. غبطة كامنة في القلوب بأن المعابد تتجاور والأديان تتثاقف، والملل تتعاشر. في المعبد الهندوسي القابع وسط السوق القديمة، يشرح الكاهن الهندي المسؤول، أن عائلته تتناسل هنا منذ 14 جيلاً، والمعبد قائم منذ 200 سنة، يفتح أبوابه في الاحتفالات الكبرى لكل الناس، ويشاركون بالآلاف معاً في مهرجان «المنجو» أو «الألوان». وعلى مسافة ليست ببعيدة إحدى الكنائس العديدة التي تتجاور مع المساجد. لولا قدر كبير من التسامح لما كان بحرينيون يهود لا يزالون يعيشون هنا ولهم من يمثلهم، ولما كانت سفيرة البحرين لدى هولندا من ديانة ليست للأكثرية، ولما رأيت الهنود جزءاً من النسيج البحريني ومن كبار التجار الذين يحتلون سوق الذهب، وهي من بين الأهم لأهالي الجزيرة، أو يحركون سوق الأثواب المحلية.
من أقوال الروائي المصري بهاء طاهر الجميلة «أن بمقدور الدول الصغيرة أن تصنع نجاحات كبيرة». وهو شبيه بما كتبه أستاذي الكبير سمير عطا الله عن «الدول السعيدة حقاً»، رغم صغر مساحتها وضآلة مواردها، وإصرار أهلها مثل سنغافورة والدنمارك وكوستاريكا. وفي البحرين الكثير من المحبة والطيبة التي تأسر القلب.
وفيها الكثير مما يذكّر ببحر لبنان وانفتاحه على الأفق، وتمازج أهله فيما بينهم، وإمكاناته الكبيرة الكامنة التي هي بحد ذاتها ثروة يمكنهم أن ينهلوا منها بقدر ذكائهم وحسن تدبيرهم. وفي البحرين من احترام النظم وصون المباني التراثية، والعناية بالآثار، ما يفلت من أيدي اللبنانيين، بسبب فوضاهم.
لسبب غير واضح، غالباً، ما نحب نحن العرب، أن نضيء على تشابهنا أو أن نعتبر أنفسنا كذلك دون أن نكونه. أينما ذهبت شرقاً حتى الصين وماليزيا وإندونيسيا وجدت الإسلام حاضراً، وكيفما توجهت غرباً حتى إسبانيا وصقلية رأيت المسلمين قد تركوا بصماتهم. وقبل الإسلام بآلاف السنين كما هو الحال في البحرين وعمان وغيرهما من دول الخليج وبلدان العرب، عاشت أديان، ومرت حضارات، منها ما أقام وبعضها اندثر أثره. ونحن ورثة هذا التمازج المترامي، أشبه بخزان لتراث إنساني هائل وبديع، تنقب عنه اليونيسكو لتحفظه برموش العين.
ومع ذلك، نستشرس عند كل مناسبة، لندفع عن أنفسنا هذه التهمة الجميلة، بأننا فسيفساء غنية عاشت قروناً طويلة، متراصة متناغمة كلوحة نادرة، يتسابق المنقبون للبحث عن معالمها. الواقع يقول غير ذلك، ولا يجوز في أي حال، ولا تحت أي ظرف، أن نسمح لمطارق الشرّ أن تذرونا، وتفتت صلابتنا، وجمالية بنيتنا المجتمعية الساحرة. لأننا إما نكون هكذا أو نتحول إلى فتات.