لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

وجهان لعملة واحدة

على الرغم من حركتهما المتعاكسة، تلتقي الماضوية والمستقبلية في أكثر من نقطة. ولعل أهم هذه النقاط علاقتهما بالزمن. فالأولى تتحرك في اتجاه الماضي سعياً لاسترجاع نموذج قديم وإسقاطه على الحاضر، والثانية تتحرك في اتجاه المستقبل، سعياً لإسقاط نموذج متخيَّل على الحاضر، وما يجمعهما هو سعيهما الثوري لتغيير الحاضر بالقوة بدلا من القبول بمبدأ التحول التدريجي انطلاقاً مما هو قائم الآن.
كذلك، فإن الحركات المستقبلية والماضوية تظهر عندما يعيش مجتمع ما حالة من الاضطراب العميق أو أزمة عميقة تدفع ببعض مثقفيه ومفكريه إلى البحث عن «قفزة» تسمح بدفعه إلى الوراء أو الأمام، وغالباً ما تكون هذه القفزة مترافقة بعنف استثنائي لم يعرفه ذلك المجتمع من قبل.
للماضوية والمستقبلية تطبيقات كثيرة في تاريخنا المعاصر. وأحيانا نجد القرارات متداخلة في حركتها، فأتاتورك الذي وصل إلى الحكم عام 1923، حاول أن يتخلص من كل المفردات العربية والفارسية التي تبنتها اللغة التركية آنذاك. ولتنفيذ هذا القرار، منع استخدام هذه المفردات، لكن العودة إلى اللغة الأصلية قبل غزو القبائل التركية أراضي حضارة عريقة تمرّ بمرحلة تفكك «الحضارة الرومانية» يعني العودة إلى لغة بدائية في تراكيبها، مما دفع علماء اللغة الأتراك إلى العودة إلى القواميس الصينية القديمة بحثا عن كلمات ميتة تعويضاً عن الكلمات العربية والفارسية.
في المقابل فرض أتاتورك على الرجال ارتداء القبعة الأوروبية ذات الحواف العريضة، بدلا من الطربوش وعلى النساء التخلي عن الحجاب التركي التقليدي وارتداء الثياب الغربية، كان أتاتورك يسعى إلى «القفز» على الحاضر وفرض نموذج «مستقبلي» باعتباره شرطاً لتجاوز مخلفات الدولة العثمانية التي أطلق الغرب عليها منذ فترة طويلة لقب «الرجل المريض».
في كلتا الحالتين، أثبت الواقع عناده ضد ماضوية ومستقبلية أتاتورك. ففشل إحياء اللغة التركية بعد سنوات قليلة من الشروع في تنفيذه، رافقه فشل فرض النموذج الغربي في ارتداء الملابس على الرجال والنساء، بل دفع بتصاعد حركة مضادة تمثلت في ظهور الإسلام السياسي بتركيا ابتداء من ثمانينات القرن الماضي.
في المقابل، سعت ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917، عبر حلم مهندسها الأكبر، لينين، القفز فوق المرحلة الرأسمالية بالكامل للانتقال إلى مجتمع مستقبلي ما زال مجرد «يوتوبيا» يشبه بشكل أو بآخر جمهورية أفلاطون المتخيلة.
إنه المجتمع الشيوعي، حيث تختفي ملكية وسائل الإنتاج الفردية وتصبح ملكا للمجتمع، وحيث تختفي الدولة ويصبح الناس فيها يديرون شؤونهم من دونها. إنه العصر الذي تختفي فيه المنافسة والتمايز بين الأفراد والصراعات، وفيه يصبح المجتمع قادراً على إنتاج ما يحتاجه الفرد من سلع بشكل فائض عن الحاجة.
غير أن ما حدث هو العكس تماماً: فبعد حرب أهلية دموية استمرت ثلاث سنوات (1918 - 1921) ضد شرائح واسعة من المجتمع الروسي عارضت مشروع لينين الهادف إلى انتزاع امتيازاتها وملكيتها بالقوة، وبعد تضخم الدولة بشكل سرطاني من دون القدرة على خلق رخاء اقتصادي ووفرة وتنوع منشود في السلع الاستهلاكية، اتضح تدريجياً أن هذا الحلم تحول إلى كابوس يسود فيه الحزب الحاكم الوحيد بأجهزته القمعية على شرائح المجتمع المختلفة وعلى أنشطته المتنوعة، فبدلا من وفرة السلع وتنوعها تحققت الندرة وضآلة الاختيار، وبدلا من ذلك الحلم بسهولة الحصول على ما يحتاجه الفرد أصبحت الطوابير الطويلة على المحلات الحكومية لشراء أوليات السلع الاستهلاكية تقليداً محفوراً في الذاكرة الجمعية، لكان أوقات الفراغ الطويلة التي سيوظفها سكان المجتمع الشيوعي المستقبلي في تطوير قدراتهم الإبداعية (حسب حلم ماركس ولينين) أصبحت مكرسة أكثر فأكثر للوقوف في الطوابير الطويلة من أجل شراء مواد غذائية أولية.
وكأن فرضية ماركس التي كانت ترى الأنظمة الرأسمالية السائدة في عصره ديكتاتورية تخدم مصالح الطبقة البورجوازية السائدة، حلت محلها ديكتاتورية «المكتب السياسي» الذي يقود الحزب الحاكم الوحيد، وبدلا من «فائض القيمة» الذي يستولي الرأسماليون عليه كما يرى ماركس، أصبح هذا الفائض في خدمة أعضاء الحزب الحاكم وقيادييه عبر الأسواق الخاصة بهم وامتيازات الإجازات والرحلات لهم ولعائلاتهم.
لذلك، لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي بشكل درامي بعد مرور ما يقرب من 70 سنة، إلا دليلا آخر على فشل الأحزاب المستقبلية في فرض صورة متخيلة على الحاضر.
في العالم العربي برزت حركتان ماضويتان في جوهرهما، رغم اختلاف رؤاهما وبرامجهما: الحركة القومية وحركة الإسلام السياسي. الأولى تجسدت في حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق وسوريا والاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، والثانية تجسدت بحركة «الإخوان المسلمون» ومشتقاتها التي شكلت «داعش» و«النصرة» أكثر تجلياتها المتطرفة على صعيد التطبيق لا على الأهداف النهائية التي يتفق الجميع عليها: التحكم المطلق في حياة الفرد اجتماعياً وثقافياً وسلوكياً وسياسيا وفق تأويلهم للشريعة.
غير أن كلتا الحركتين انطلقتا من قناعة وهمية ترى أن هناك دولة عربية - إسلامية ظهرت إلى الوجود في الماضي، وعاشت عصراً ذهبياً. إلاّ أننا إذا تمعنا بالمراحل التاريخية التي مرت بها هذه الدولة «المتخيلة» سنكتشف أنها ظلت في الجزء الأكبر من حياتها منخورة بالنزاعات الدموية، وتفشي الانقسامات والتمردات والحروب الأهلية، ناهيك عن انتشار دويلات الطوائف المتصارعة فيما بينها في الجزء الأكبر من التاريخ العربي - الإسلامي القديم.
مع ذلك، ظلت الصراعات الدموية بين هاتين الحركتين متواصلة منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928، على يد حسن البنا، ولعل السبب يعود إلى اختلاف برنامجيهما بعد تحقيق حلم الدولة الواحدة. الحركة القومية تسعى إلى بناء مجتمع يتفاعل مع العالم الحديث، لكن عبر نظام استبدادي، والحركة الإسلاموية تسعى إلى بناء مجتمع منغلق على نفسه، نموذجه هو مجتمع القرن السابع الميلادي المتخيَّل لا القرن العشرين.
أخيراً، لا بدّ من التذكير بفرق أساسي آخر بين الماضوية والمستقبلية: الناس أكثر ميلاً إلى الأولى خلال الأزمات العميقة، لأنها تشبه الحنين إلى الطفولة لدى كل إنسان، وكيف أن تلك المرحلة تصبح فردوساً نقياً من النواقص عندما يعيش المجتمع حاضراً مضطرباً، ولعل انتشار ظاهرة التشدد اليوم على عكس ما ساد في الجزء الأكبر من القرن العشرين، هو خير تعبير عن هذا الميل.