علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

إحياء قضية قديمة لم يطو ملفها بعد

لما توفي الأستاذ يعقوب الرشيد في مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) 2014، بعد أن أوفى التسعين عاماً، رثاه أولاً الكاتب صلاح الزامل في مقال عنوانه «ورحل المؤرخ والراوية يعقوب الرشيد» نُشِر في جريدة «الرياض»، ورثاه ثانياً، وفي يوم واحد، المؤرخ الدكتور محمد آل زلفة، والكاتب الدكتور عبد الله القفاري؛ الأول كان عنوان مقاله «الشيخ يعقوب الرشيد الذي فقدناه»، نُشر في جريدة «الجزيرة»، والآخر كان عنوان مقاله «رحيل الذاكرة...»، نُشِر في جريدة «الرياض»، ثم رثاه في يوم واحد الأديب عبد الرحمن المعمر وابنه الكاتب بندر بن معمر. الأول كان عنوان مقاله «في غياب يعقوب الرشيد كأني ومالكاً لم نمشِ ليلة معاً»، والآخر كان عنوان مقاله «يعقوب الرشيد... تاريخ لم يكتب!»، نشر في جريدة «الشرق».
الأديب والصحافي العتيق عبد الرحمن المعمر في مقاله الرثائي - وهو من المجيدين في الرثاء وفي تقديم صورة عن قرب لشخصيات الراحلين، وله في هذا الجانب مقالات لافتة قل أن تجد ما يضاهيها في أدب الصحافة الحالي - ألقى ضوءاً على جانب من جوانب شخصيته المثيرة والغامضة، وهي غرامه بالعمل من وراء ستار!
والحق أنه كان شخصية فريدة في ثقافتها الملتوية وبمكر معرفتها، وكان من أدهى الرجال الذين قد تقابلهم في حياتك. إنه شخصية إشكالية فهو - كما قال عنه - «رجل اختلفت حوله الأقاويل من قائل إلى ناقل». وما كل ما يعلم يقال ولا كل ما يقال يُقال في كل الأحوال.
يقال إن قلة قليلة من خلصائه كانت تعرف الطريق إلى مسكنه، لأنه كان لا يستقبل عارفيه فيه. وإلى هذا أشار المعمر بطريقة غير مباشرة، حينما قال: «كان يعقوب يتخذ من الفنادق وجلساتها وصالاتها مكاناً وموعداً لاجتماعاته ومقابلاته، بل وبعض حفلاته وندواته... التي كان آخرها ندوة فندق المنصور التي كانت تمتد إلى مطلع الفجر».
قبلها كان يجتمع ببعض المهتمين بالثقافة في فندق صغير في حي الناصرية، اسمه فندق السعودية. وفي هذا المكان التقاه الكاتب الدكتور عبد الله القفاري منذ قرابة عشرين عاماً قبل وفاته، كما أخبرنا هو بذلك، في مقاله الرثائي. وفي هذا الفندق الصغير تعرف إليه أكثر فأكثر. ومنه نشأت بينهما صلة متينة الأسباب.
هذه الصلة المتينة هي التي ربما جعلته يقول عن الراحل «إنه هو الذي أسهم بشكل أساسي في أول دراسة عن العقيلات (نجديون وراء الحدود)، رغم الخلاف الذي نشب بين مفتاح البحث وداعمه يعقوب الرشيد، والأكاديمي السوداني عبد العزيز عبد الغني إبراهيم».
وكان صلاح الزامل قال في مرثيته قبل أربعة أيام من نشر مرثية الكاتب عبد الله القفاري إن «كتاب (نجديون وراء الحدود) الذي يعد من أوائل الكتب التي تحدثت عن العقيلات وتاريخهم أكثر مادته وروايته هي من الأستاذ يعقوب الرشيد، كما ذكر مؤلف الكتاب في مقدمته، ولم يُشِر المؤلف إلى أن مصدر المعلومات والرواية يعقوب الرشيد. وهذا شيء مؤسف ومحزن».
هذا القول - كما ترون - قول مضطرب ومتناقض، يقول الشيء ونقيضه. فحسبما قال، فإن مؤلف الكتاب عبد العزيز عبد الغني إبراهيم ذكر، في مقدمة الكتاب، أن أكثر مادته وروايته (!) هي من الأستاذ يعقوب الرشيد، ثم عاب عليه أنه لم يذكر ذلك!!
ويجدر هنا أن أذكر أن المؤلف عبد العزيز عبد الغني إبراهيم في إشارته ببضعة سطور في مقدمته إلى يعقوب الرشيد من دون أن يسميه، قال شيئاً آخر، وهذا ما سنأتي عليه حين نعرض للنزاع بين مؤلف الكتاب عبد العزيز عبد الغني إبراهيم ومدعي تأليفه يعقوب الرشيد.
وأتى بعدهما بندر بن معمر، فقال: «من عجائبه - رحمه الله - نشره مقالات بأسماء مستعارة، وتمريره معلومات لكتّاب ومؤلفين، ومن ذلك كتاب (نجديون وراء الحدود) الذي يؤرخ للعقيلات؛ فبعد نشر الكتاب ثارت معركة بينه وبين مؤلفه الدكتور عبد العزيز إبراهيم على صفحات (الشرق الأوسط)».
لا أختلف مع بندر أن الراحل شخص عجيب وينطوي على عجائب، ولكن ليسمح لي بأن أعجب من قوله السالف. فما دام الراحل كان ديدنه تمرير معلومات لكتّاب ومؤلفين، فلماذا نشبت معركة بينه وبين مؤلف «نجديون وراء الحدود» الذي مرر إليه معلومات برضاه، بعد ظهور الكتاب؟ ولماذا نشبت المعركة حول هذا الكتاب بالذات؟ ولماذا لم تنشب بينه وبين كتّاب ومؤلفين آخرين كان يمرر إليهم معلومات بعد ظهور مقالاتهم وكتبهم؟!
الحسن في تبني بندر هذا الادعاء أنه كان مقتصداً فيه، فهو قال إن الراحل مرر معلومات إلى مؤلف «نجديون وراء الحدود»، ولم يقل إنه كان هو المؤلف الحقيقي للكتاب، كما كان يزعم يعقوب الرشيد.
حين قرأت هذا الادعاء في رثاء عبد الله القفاري وصلاح الزامل وبندر بن معمر، في الوقت الذي نُشِرت فيه مقالاتهم، رحت أفتش عما يقال عن قضية «نجديون وراء الحدود»، فوجدت أن صلاح الزامل في مقال له عنوانه «يعقوب الرشيد مؤرخ العقيلات وشاهد على عصرهم» منشور في جريدة «الرياض» بتاريخ 13 يوليو (تموز) 2010 يجزم بأن 90 في المائة من مادة الكتاب هي رواية يعقوب الرشيد! واتهمه بالنكران الظاهر والجحود السافر للذي أمده بالمادة العلمية ومفاتيح الدخول إلى رجال العقيلات في الشام ومصر وعناوينهم.
في مقاله هذا لمست أن الدعوى التي يقول بها يعقوب الرشيد، وهي أنه هو مؤلف «نجديون وراء الحدود»، والتي هو متبنٍّ لها، كانت واضحة، ولمست أنه قد قرأ إشارة مؤلف الكتاب في المقدمة إلى يعقوب الرشيد من دون أن يسميه، فأدركت أنه في مقاله الرثائي، قد أرتج عليه القول في التعبير عما يريد أن يقول.
ووجدت مقالاً للدكتور عبد الله القفاري عنوانه «نجديون وراء الحدود!!»، منشوراً في جريدة «الرياض» قبل وفاة يعقوب الرشيد بخمسة أشهر، هو عبارة عن مراجعة نقدية لهذا الكتاب بمناسبة صدور طبعته الثانية.
في هذا المقال قال: «خسر هذا المشروع - يقصد الكتاب - انسحاب الأستاذ يعقوب الرشيد (أطال الله في عمره)، صاحب الفكرة ومموِّل الباحث نتيجة الخلاف الذي دب بينه وبين الدكتور عبد العزيز إبراهيم، وأعتقد أن مشروع الكتاب بهذا ربما خسر الكثير من الوثائق التي كان يمكن أن تجعله المصدر الأول الموثوق لدراسة ظاهرة العقيلات».
في هذا المقال يتضح لنا ما عناه في مقاله الرثائي، حينما قال إن الراحل أسهم بشكل أساسي في كتاب «نجديون وراء الحدود». هذا الإسهام هو (كما يؤمن) أنه كان صاحب الفكرة والممول المالي للباحث. ويمكن استخراج معلومتين أخريين من هذا المقال، وهما: أن يعقوب الرشيد انسحب من الاشتراك مع عبد العزيز عبد الغني إبراهيم في تأليف الكتاب. والظن بأن الكتاب قد خسر بانسحاب يعقوب الرشيد الكثير من الوثائق!
بتاريخ 23 مارس (آذار) 2010 كتب الدكتور عبد الله مقالاً في جريدة «الرياض» عنوانه «عبد الله القصيمي والسعوديون»، موضوع المقال تقديم شهادة يعقوب الرشيد في بعض جوانب تاريخ صديقه عبد الله القصيمي. في شهادته التي قدمها سأله الدكتور عبد الله: «منذ عرفتك قبل أكثر من خمسة عشر عاماً بعد صدور كتاب (نجديون وراء الحدود)، وأنت تتحدث عن عبد الله القصيمي حديثاً عابراً... أليس القصيمي نجدياً وراء الحدود ولكن من نوع آخر؟!».
لم ينص الدكتور عبد الله في سؤاله هذا على أن الكتاب ليعقوب. وسؤاله يقتضي توجيه أسئلة ثلاثة هي: ما مبرر إقحام الكتاب في السؤال، وهو يعلم أن يعقوب يدعي أنه مؤلف الكتاب؟ ولماذا لم ينص على أن الكتاب له؟ ولماذا لم ينسب الكتاب لصاحبه عبد العزيز عبد الغني إبراهيم؟ وعلى كل فإن إقحام الكتاب في السؤال يشير إلى أنه يرى في تلك الفترة أن مؤلف الكتاب هو يعقوب الرشيد، وإنْ قالها بطريقة ملفوفة.
لا صحة لما قالوه فيما عدا أنه ربما كان صاحب فكرة الكتاب. أقول هذا بحكم أنني كنتُ طرفاً أساسياً في تلك القضية، فلقد تحريت عنها تحرياً علمياً وبوليسياً وأثبتُّ بوثائق نشرت على مدار ثلاثة أيام في جريدة «الشرق الأوسط»، في أواخر عام 1992، أن الكتاب لعبد العزيز وليس ليعقوب. أما لماذا لم يغلق ملفها بعد، فهذا يرجع ربما إلى تهرب عبد العزيز عبد الغني إبراهيم من الدفاع عن ملكيته الخاصة، بسبب وجود مستمسك قانوني عليه كان في حوزة يعقوب الرشيد قد يكون محرجاً.
وللحديث بقية.